الجمعة، 4 مارس 2022

يوميات : عوالمي السرية..../ اخي فؤاد....


 كنت ارغب بشدة في ان اتخطى العمر بسرعة واكبر حتى وانا عن حق لم اكن اعرف ما عساني سافعله بعمري ولا كانت عندي الثقة في نفسي ولا في مقدراتي على انه سيكون بامكاني ان اخلق لي الحياة التي قد اريد... كل الذي كان يراودني رغبة في ان اتجاوز ضعفي وهشاشتي واحساساتي بانني سريع العطب... كنت كمن يريد فقط ان يحل في مكان اخر وبشكل اخر وعلى نحو اخر غير ان اظل ذلك الطفل الذي يستشعر ضالة حجمه وتشوش ذهنه وغرابة مشاعره... لم اكن البثة متيقن في انني قد ادرك اي شيء مما قد اجدني احلم به او يستهوني التفكير في امكان بلوغه.... كنت اريد فقط ان اتجاوز واقع حالي الى واقع اخر... اي واقع مختلف اكون فيه الى حد قادر على ان اعبر عن نفسي بشكل واضح ودون خوف او ارتياب من ان لا افهم او يستنكر علي ما اجدني اقوله وانظر اليه من مكاني.... 

كنت ادرك اننا جميعنا نكبر يوما على يوم واننا لن نبقى على ذات الحال ولا ذات الهياة ولا نفس الارتباط بالاشياء والناس والامكنة...

كنت استوعب حقيقة الموت والافتقاد وكان يغبنني كشف انني قد اصحوا في اي لحظة على افتقاد اعز الناس علي ومن بفضل وجودهم اضمن وجودي على كل ما يمكن ان استشعر من اشكال الخصاص فيه ولارضى عنه...

كان يشقني التفكير في الموت كحقيقة ممكنة الحدوث في اي لحظة واجدني وانا احدق في وجوه من حولي جدتي..عماتي..والدتي..اعمامي...والدي...اخوتي..ابناء عماتي...جاراتنا الطيبات..اقفز بتصوراتي الى اللحظة تلك التي قد يتقرر فيها ان اجدهم قد رحلوا وكفوا على ان يتواجدوا بيننا...كان الخوف يعتصر فؤادي حتى وانا اغفوا في حضن احدى عماتي او والدتي او خالتي عندما يقفز خاطري لامكان ان اصحوا على افتقادهن الى الابد....ولعل كان هذا احد اهم الاسباب والدواعي التي كانت تجعلني راغب بشدة في ان اتحاوز العمر بسرعة واكبر لمرحلة اكون فيها ولو جزئياًّ في مأمن من زلزال المشاعر التي كانت تنتابني مع مثل هذه الخواطر....

لم يكن التفكير في الموت لحظات عابرة لذهني وانما كانت تعسكر وتسيطر على كل مخيلتي وتدفعني لالتحف بالغطاء واسحبه فوق راسي لابكي بصمت حد النحيب وحد تجف دموعي واستعيد بعض هدوئي واستسلم لنوم مضطرب يبدوا وكان لا صبحا قريبا قد ابلغه في بحره وانما اظل بعد كل اغفاءة استيقظ لافتح عيني وانظر ان ثمة ما يبشر بان الصبح قد حل وهل بنوره..استيقظ على تحسس بالبرد وقد زاغت البطانية عن فرشي وتعرى جزء كبير من جسمي فاستعيدها والتحف بها واظل احملق واتابع نوم من معي بالغرفة.. والدي على المرتبة العرضية من الغرفة وعمي محمد على المرتبة الموازية لي وقد تلاقت رجاله مع رجلي اخي فواد الذي يشاركه نفس المرتبة لكن راسه في جنوبها وراس عمي في شمالها...باب الغرفة الخشبي بالطلاء الاخضر المائل للفستقي مردود وشبه مغلوق والنافدة الصغيرة والوحيدة المطلة على صالة جلوسنا جميعا ببهو الدار بدورها غير تامة الاغلاق وعليها كنت اعول ان ارى تباشير النهار ان حل....

مراتب الغرفة صلبة وقاسية انها من التبن والبطانيات حالكات اللون وعلى انها خفيفة الوزن الا انها قاسية الملمس وخشنة 

ابي لا يغطي في العادة وجهه اثناء النوم لذلك اتبن بعض شخيره واخال ان فمه المفتوح هو من يبعث كل روائح الخمرة التي حرصوا على ان يشربوها من بعد اول الظهر بينما اتصور عمي محمد الملتحف بالغطاء والمنكمش تحته بعد يستعدب رائحة جوفه الممتلاة بالخمرة ولذلك لا يريدها ان تنتشر كلية في فضاء الغرفة.... "الطايفور"  في وسط الغرفة بالقرب من الباب وبعد محمل بالكوؤس وببقايا نزيرة من طعام.. اما قنينات زجاجات الشراب الفارغة فلقد وضعت ارضا قرب خزانة الملابس الكبيرة التي تسد العرض الموازي لكنبة والدي... رائحة الغرفة مميزة في كل الاوقات والفصول انها مزيج من دخان السجائر ورائحة النبيد الاحمر وجوها شبه معتم دائما... 

مع اول الصباح انسحب لالحق بجدتي لسطح البيت التي تكون للتو بدات نهارها واشغالها.. ألحق مسرعا لعلي اغنم ببعض الشاي البارد الاحمر اللون المتبقي بالبراد  من ليلة امس لارشفه مع قطعة خبز باردة تذهب عني احساسي بالجوع وببرد الصباح.... 

الصباح يذهب عني خواطري الشقية لحين فقط اذ ما نلتم جميعنا على مائدة الافطار حتى تعاودني تلك الاحساسات النزقة... وكانني لا اعرف كيف افرح او اسعد بالحاضر.. والأمر كوني لا اعرف هل كل الاطفال في عمري ينتابهم ما ينتابني ام انا وحدي فريد في افكاري وخواطري.... 

لا اتصور امكان ان ابقى وحدي مع عمتي مينة


والبيت خال من كل ساكنته وافراده... استوحشه تماما وارقد قبالة الباب في زاوية ملتصقة بجدران فرن ملتصق ببيتنا دونما حاجة لافتراش اي شيء على الارض وفي نفس الان مراقبا "الضواية" او ما كنا نسميها "المونطرنا" لعل عمتي تمر من امامها او تقصد الاطلالة علي لتنتبه لما عساني افعله.... 

يكون جو البيت موحشا ويبدوا لي اكبر من حجمه الحقيقي لكنه لا يرعبني وبشكل من الاشكال استعدب وحشته كما سرحان فكري وخواطري المتعقبة حال اين يكون ابي واعمامي وازواح عماتي ولربما بعض من اخوتي وغيرهم والذين  اعرف انهم لامحالة سيكونون بالجنان اما جدتي وعمتي فاطنة فلربما قصدن احدى بيوتات العائلة لتحصيل سومة الكراء ووالدتى مع اختى الصغرى حتما ستكونا بمنزل معارفها بدار "هميوط"... واكون انا هاهنا وقد نسيت تماما ما الذي جعلني لا اصاحب اي جماعة منهم ثم اتذكر انني انا من اختار ان يبقى صحبة عمته مينة الحضن الدافى والعينين التي تقرا ما يجول في خاطري ومايزعجني....

كنا فقراء دون ان نلاحظ ذلك انا لا اعقل جدي والد والدي لكن اعقل انه ترك لنا جنانا واسعا وعددا من البيوت والمحالات بالمدينة القديمة ومحلا لبيع السمك بالسوق المركزي... كنا ناكل ما اتفق ونشبع بما اتفق ولا نبالي على انني اسمع نفس السجال بين والدتي وجدتي ان كان الاكل سيكفي الجميع ام لا.... كان كل شيء رث وقديم وبال لكن هكذا كانت منزل جدتي مند ان وعيت عليه وحسبت انه لا يمكن ان يكون الا هكذا.. وحده المرحاض كان عقدتي اذ لم يكن غير حفرة وضيق يقع تحث سلم الدرج وبابه تمسك بسلك ولا حنفية به وبلا مصباح كهرباء.. ادلفه خائفا مرعوبا وفي العادة بعد. ان يكون هناك احد قريب مني يظل يتنادى علي كي اطمان قليلا واتمكن من قضاء حاجتي بسرعة ولاخرج من قبره بسرعة... 

كنا فقراء


وفي نفس الان ما كان لنا ان نكون فقراء انا ما كنت لاهتم بما يحكوه من حولي انا فقط اخدت اليقين من اخي الاكبر فؤاد الذي اختصر لي الوضع كله في ما تحتكم عليه العائلة من املاك وان المشكلة فيهم فهم الذين لا يعرفون كيف يتدبرون شؤونهم بل انهم استانسوا ان يعيشوا كذلك ودون حتى في ان يفكروا في تغير اوضاعهم للاحسن.... وربما مثل هذا كنت اسمعه من والدتي وهي تتدارسه مع معارفها بمنزل "هميوط".... 

منازل عماتي لم تكن بمثل سوء منزل جدتي على انها بدورها كانت منازل ضيقة وبفرش جد متواضع وتضم عددا كبيرا من الابناء والبنات.... 

انا لم اكن اشعر باننا فعلا فقراء الا عندما نكون بمنزل" هميوط" اما حتى بمنازل جيران جدتي التي كنا نلتحق بها من حين لاخر لنتابع حصصا بالتلفاز فلم يكن الوضع بعيدا عن وضعنا لكنني كنت استغرب لحال منازل قبالتنا كانت غاصة بالسكان ويقطنها عدد من العوائل بالاضافة الى جيش من الفئران ولمنزل بحوارنا كان سكانه يطلبون يوميا ملا دلوهم وبراميلهم الصغيرة بالماء من منزل جدتي 

السيد الوالد كان كبير اخوته الذكور واخته الزهرة كبيرة اخواته البنات وواحدة ماتت يخلفها ابن لها يكون هو العربي بومنينة وبنت لها تكون هي حورية بومنينة كان يظهران ويختفيان تارة يقيمون معنا وتارة لا اعرف اين يقيمون كما لم افهم كيف انهم يحملون نفس اسم العائلة.... وكلاهما كانا متحسسين لدرجة رفيعة وفي غاية اللطف  والدعة والهدوء وسهل لاي واحد منا او من غيرنا ان يتعلق بهما ويحبهما... 

عمتي عائشة كان زوجها الشريف عسكري وضمن لها حياة ظاهريا كريمة منازل كبيرة وواسعة وفرش انيق نسبيا والشريف هذا هو الوحيد  الذي لم يكن من جماعة خلان الوالد واعمامي لانه لم يكن يشرب الخمرة 

انا لم اكن اشعر بان عائلة والدنا فقيرة الا لما تصحبنا والدتنا الى مدينة طنجة الى منزل اختها زهرة حيث كنا ناكل حتى نشبع ونحلي باشهى الفواكه ونشرب ادفى قهوة بالحليب وارطب لبن وناكل الحلوى والفول السوداني  وحلوى زريعة الكتان وحلويات المواسم والثمور... وعلى ان فرشهم قديم الا انه رطب ويجلب الدفى ومرحاضهم اقل رعبا من مرحاض بيت جدتي لانها فقط مستوطنة لحشرة "سراق الزيت" وبها مصباح كهربائي وبابها يغلق من الداخل.... كما ان خالتي تعالجه بمرشة "الغاز" وتسقط عشرات الصراصير في كل جولة رش.. 

انا لم اكن لافهم ما عساه سيكون التغيير القادم او الممكن كل ما اعيه من تغيير يهم الانتقال من منزل بمدينة القنيطرة الى منزل العائلة في العطلة الربيعية وفي عطلة الصيف والانتقال الى طنجة لمنزل خالتي زهرة لحين اخد يدور الحديث عن منزلنا الجديد الذي انتهى طابقه التحتي من الانجاز والدور الان على الطابق الاول الذي سننتقل اليه نهائيا وسنودع معه مدينتنا ومسقط راسنا القنيطرة.. كنت اسال كثيرا في شانه واريد ان اعرف على وجه الضبط كيف يزعمون باننا سنكون به في احسن حال وان بانتقالنا اليه سننتقل بكل حياتنا للافضل 

السيد والدي كان عميد عائلته وكنت احسبه غنيا لانه في العادة هو من يخرج النقود من جيبه وهو من يغطي مجمل المصاريف وهو من تحيط به اخوته البنات مترجيات اياه ان يقتني لهم قنينات مشروبات غازية وهو من ينقد كل ابناء العائلة قطعا نقدية يخرجن بعدها فرحين وليفرحن امهاتهن بما وهبهم اياه خالهم با عبد القادر....


  

في ليلة عيد القدر بقيت الليلة كلها مع اخي فؤاد في السطح وكانت لجانبنا عمتي مينة التي كانت تستلقي على كنبة ببراكة السطح كنبة استقدمها زوج عمتي فطوم الذي كان يشتغل كسائق مهني للحافلات الطرقية والحضرية وهذه الاخيرة هي التي تكنى بكنيتها التي نازعته في كنيته الاولى المعروف بها "السبتاوي" فاضحت "طابطابوا" كانت كنبة حافلة طرقية حمراء اللون داكنته... سهرت معه حتى الفجر وراقبت تلون السماء لكنني لم ادعوا بشيء لم اعرف بما عساني قد ادعوا به ولربما لم اكن لاصدق في ان باب السماء حقيقة تفتح ليليتها... وللان لا املك شيئا  يمكنني ان ادعوا به السماء ان حدث وفتحت....!!؟ 

كان لغو كبير ياتي بسيرة الجن والشياطين واعمال السحر والثقاف ويذكرهم بمواتنا وبقبورهم وبمقابر لم تزر من مدة فيعقدن العزم على زيارتها في اقرب فرصة بل ويتفقن على يومها وعادة كانت لمقبرة سيدي علال بن احمد ولمقبرة للامنانة المصباحية....كانت عمتي فطوم بطبعها العفوي تسلم نيتها بسرعة بينما كانت عمتي الكبرى الزهرة تلاجج قليلا وتستحضر عددا من الايات القرائنية كما تنادي على اخيها عبد القادر الذي يكون والدي ليستحضر معها ما تناسته من ايات بينما كانت عمتي عائشة تنظر في وحوه الجميع بسماحة وطيبوبة الا ان عمتي فاطنة فهي قد تكون الوحيدة التي ينتابها القلق وتتبرم من مسار الحديث اما حتى عمتي مينة والتي كانت تتحمس للحديث وتشارك فيه فهي بعد لم تقطع رجاءها في الحصول على زوج لها لذلك لم تكن تعتبر نفسها منحوسة...

انا لم اكن معني بلغوهم ذلك مادام اخي فؤاد قد افهمني ان كل ذلك مجرد تخلف وميل للشعودة وانا ثقتي كانت بالغة في كل ما يقوله لي اخي فؤاد الذي لا يعرف كيف يداور او يثرثر وانما بمنطق مقتصد يتمكن من تفسير كل الامور لي ويقنعني بذلك....

كنت اسعد كثيرا بالخروج صحبة اخي فؤاد لان في الخروج معه عدد من الكشوفات فهو سيقربني من كل ما يمكن ان يكون محجوبا علي وحتما في كل خرجة معه ستاتي مغامرة من نوع ما وساركب معه تحديا جديدا وعند عودتنا للبيت ستستشعر حقيقة كم كبرت على ما كنت عليه ولو لفترة ساعتين او ثلاثة 

مع اخي فؤاد لا استطيع تجاوز الاحساس بانه ليس فقط اكبر مني ويكبرني فعليا باربع سنوات وانما كونه شخصا غريب الاطوار ويكبر جميع افراد عائلتنا وان منطقه مختلف كليا عن منطقهم جميعهم وان له رؤية لا تخيب وقدرة عحيبة على التنبا بالاشياء وتوقع الامور.... كنت اجده يعرف كل شيء ويعرف الطريق للوصول الى اي واحد نريد ان نقابله او نعثر على مكانه.. كان اخي فؤاد  يرفض حتى الدهشة التي تعتلي محيايا ويحثني على ان لا انخدع لانه فقط يستطيع اعمال عقله وايجاد التخمين المناسب بناءا على سابق رصده واضطلاعه على تفاصيل الامور ولكونه يعرف كيف يستعمل جيدا حواسه... نظره.. سمعه.. لمسه.. شمه.. تدوقه.... 

مع اخي فؤاد للاسف لم اكن  اشعر بكامل ارتياحي لا اعرف لماذا!؟  ربما لانه يعرف الكثير مما لا اعرفه انا او لانه لا يقول كل ما يعرفه وانما دائما يبقى بجعبته ما علي ان انتظر زمنا لاعرفه منه.... 

اخي فؤاد بشكل من الاشكال كان يخيفني ويربكني ولا يجعلني مطمئنا له لكن اصدق في كل ما يقوله لي واعرف عن حق انه يهتم بي ويرعاني كما انه يحبني...  


Tariktariko

 ماذا تركت خلفي حين ودعت جماعة الرفاق في اواخر سنة 1988 ؟! هل تركت مكانا اشعر حقا بالانتماء اليه ..؟! هل تركت هدفا يعوزه التحقيق ..؟! وهل فع...