السبت، 26 مارس 2022

يوميات : عوالمي السرية..../ جيل الاحباطات...



 لم يكن مجرد احساس بان اموري مختلفة عن من حولي.. عن اقراني وعن من يدرسون معي في الفصل او المدرسة وانما كانت قناعة تتاكد لي يوما على يوم... كانت حقيقة ترتسم لي واضحة امام عيني.. تنعكس على المراة وفي عيون من ينظر الي ويتابعني... ولم يكن  سهل علي تقبلها كانها المسلم بها.. كانها قدري الاوحد... ولم اكن اعرف بانني بقدر ما كنت ارفض تقبلها كنت اعمل على نحتها وترسيخها كهوية لي.. كنمط.. او كشخصية لي ستظل ترافقني العمر كله مهما قلت بانني كبرت او ابتعدت عنها... 

بكل عناد كنت اكره مني ضعفي وهشاشتي وسوء تحصيلي على التقدير المناسب لي وغبني بالحاصل معي...كنت ابحث بجهد عن ما يميزني..عن مجال اكون فيه ويخصني..عن اشياء وحدي الذي اتقنها واجيدها..لم اعد اقبل على كل ما كانوا يحاولون تعليمي اياه وجعلي اتجاوز مبادئ تعلمه لمستوى اتقانه كالرسم مثلا او الحرف اليدوية..لانني اتعب بلا مقابل..بدون ان احصل على الرضى عن نفسي وعن مردوديتي..بل تتشبع دواخلي اكثر باحساسات الفشل وبانني فاشل عندما انتهى من كل تمرين وانجاز دون تحقيق مستوى الايجادة ولا التقدم المناسب...

كان علي ان اقنع نفسي اولا واخيرا بانه غير مطلوب مني ان اعرف واتقن ما يعرفه ويتقنه اخوتي بما فيهم حتى اختى الصغيرة..وكان علي ان اقطع مع فكرة اننا اسرة فن وفنانين فانا لم يكن خطي حتى في مستوى المقبول لاظل متباهي فقط بوالدي وموهبته الفذة في رسم الخطوط..وفي محاولات باقي اخوتي السير على منوال الوالد...ولا اجيد استعمال فرشات الالوان المائية ولا تحريك قلم الرصاص بالخفة والدقة والانسيابية اللازمة لرسم كروكي /تخطيط او بورتريه اولي...على انني احب الورق والاقلام والمسطرة والملفات والاظرفة وورق النسخ وكل الادوات المكتبية لكنني احبها بطريقتي وانشغل بهم ما يمكن ان افعله بها انا لا ما يمليه علي الاخرون..كنت احب ان ارتبها واحتفظ بها دون ان اسودها او اكتب او ارسم عليها اي شيء فقط لاستهلكها واراكم محاولات انجازات غير مكتملة ولا ناضجة ولا حتى في مستوى المقبول...كنت استشعر ثرائي بالحصول عليها واتركها جانبا وكلي رعبة في ان اتعلم ما ينقصني وما انا في حاجة فعلا لاعرفه ولاتقنه...

كنت احب النظام والترتيب وهو الشيء الذي اخدته من النبع الاصلي من والدي وان لم يفارق عيني المستوى الجيد والجيد جدا الذي كان عليه اخي خالد في نفس الباب... الا انني ابقيت فقط على تاثري بطرق والدي فيه.. طرقه المبسطة والغير المكلفة للمواد وللاقلام وللدقة الحسابية.. كما انني لم اكن ميالا لاكثار من التوضيب والتخصيص والتخزين بمثل ما كان عليه اخي خالد الذي دائماً عنده مشاريع عمل على قائمة الانتظار.. وفي حاجة دوما لايجاد مساحة اضافية في خزانته او بجانبها لوضع ملفاته الكبيرة وكراساته ومواده الصباغية والواحه وادواته... 

انا ودونما انجداب عاطفي اعمى كنت متاثرا وعلى نحو عقلاني بسلوك اخي فؤاد لانه كان يناقش معي الامور وحتى صغيرها ولماذا يلجأ الى هذا الحل او لهذا الفعل او لمثل هذا السلوك دون غيره.. كان يشرح لي ويقنعني بعد ان يطلب مني ابداء راي الصريح والتحدث عن وجهة نظري فيه..

فؤاد كان ملما بالصورة العامة والخاصة لكل اسرتنا ولباقي افراد عائلتنا وعندما يقدم لي نمودجه الخاص او طريقته في التفكير وفي ايجاد الحلول للمشكلات فهو كان مراعي ليقدم لي معها باقي النمادج والطرق التي يتبعها كل هولاء ويقول لي بانني املك ان اختار منها ما يتناسب معي وما يصلح لي وما يمكن فعلا ان اقبل عليه واتقدم فيه لا ان اجعل نمودج الاخر يغصبني على اتباعه دون ان يكون لي مستقبل في التقدم به او لاجدني بعد يوم او يومين بعد محاولات او عدة محاولات غير قادر على الاستمرار فيه وهكذا انتهي على ايجاد انني ضيعت الوقت والجهد بدون تحصيل نتائج ملموسة ولا مستوى متقدم في التعلم... 

فؤاد... كان انسانا بسيطا جدا وقنوعا لدرجة قد ترثيه عليها ولكنه ما كان يبالي... معي لم يكن الصموت كما كان معهم  جميعا.. ولانه طور من نظرتي للاشياء من السطح الى العمق ومن الظاهر الى الباطن ومن العاطفية الى العقلانية فلقد قدم لي اكبر مساعدة يمكن ان تقدم لي في كل عمري... 

فؤاد.. اخبرني انه ليس في حاجة للاقحام في جو المنافسة والتنافس الذي كان يسعى الوالد لخلقه بيننا ليسهل له تقييم مستوى كل واحد منا وانزياحات كل واحد منا..

بعدما تقبل وبلا اثارة اي ملاحظة ان يشاركنا غرفة جلوسنا ونومنا نحن الصغار انا واختي بشرى اخبرني بانه كان بامكانه ان يسيطر على الغرفة ويجعلها كانها غرفته هو لوحده ونحن لنا مكان محدود داخلها وانه بحكم انه من يكبرنا فهو قادر على السيطرة علينا وضبطنا.. لكنه لا شيء يستهويه في التسلط والسيطرة ولا في اكتساب المكان الافضل والمساحة الاكبر.. كان يضع في اعتباره استفهام كبيرا حول لماذا تحصل اخوتنا الكبار على غرفة مستقلة بالسطح وهو نصيبه كان غرفة صالون عادية يشاركنا نحن الصغار بها لا خزانة فيها ولا مكتبا ولا طاولات مكاتب هل لانه لا يحتاج لكل ذلك او هل هو اقل شئنا منهما... ثم كان يقطع حبل التساءلات ويقول لي المسالة تتعلق اساسا بي انا انا لست في حاجة لما هم في حاجة له ربما في وقت لاحق ساحصل على اشياء الخاصة وانما الان لي ان انظم المكان واهتمامتي بما يناسب جو الغرفة ودون ان ياثر على ما هي في اساسه اوجدت لي وبهكذا لن اكون مستحودا ولا متنافسا مع اخوتي ولا ملغيا لوجودكم لجانبي شركاء معي بالغرفة التي يمكن ان نستغلها وكما هي في الكثير من الانشطة وممارسة الاكثر من اهتمامات من شانها تقريب منا اكثر فاكثر.... 

بصراحة كنا مدينين لاخي فؤاد بالكثير من المحبة والصفاء لانه كان يحضننا بعمق وبهتم بنا جيدا ويتطور باستمرار لياتينا بجديد يدفعنا نحن كذلك لنتطور به ومعه... 

لم يكن ابدا مدعيا كبيرا او مغرورا وانما كان بالاساس شخصا له ثقة عالية بنفسه وبمقدراته ويعرف ماذا يريده من حياته وما يصنعه منها... 

كان سمير يحاول تقريبه اليه ويتعاطى معه في حدود وباحترام لكن فؤاد كان لا يريد التورط معه في برامج تجمعهما لذلك كان دقيقا في التعامل معه ولا يوقع التزمات معه تشدهما لبعضهما اكثر... لانه كان يعرف ان سمير وخالد منسجمين ويجمعهما اكثر من تخطيط والتزام وبرنامج واصدقاء مشتركون لذا ومن هنا فضل اخي فواد ان يدعهما لعوالمهما  ... ولعلهما حسبا عليه الامر انغلاقا نفسيا من جانبه...

ظل سمير علامة فارقة ومنارة شامخة ويستحق ان يلقب بانه الوحيد الذي ربي نفسه بنفسه... كان بيوتيا بامتياز ويقضي اطول اوقاته بغرفته او بسطح المنزل لكنه يمارس اكثر من رياضة بغابة اولمبيكا ويمارس الصيد بالقصبة بكل مواقع الصيد على طول السواحل الصخرية كما يتدرب باستمرار على عدد من الرياضات القتالية وعلى حمل الاثقال بغرفة السطح وبالاضافة لذلك يجد الوقت ليتمرن على العزف على القيتارة وتلحين اغاني انجليزية وكتابة قصائد لها كما مهتم وولوع بتربية الحمائم والنباتات... ومهتم اكثر بالقراءة في حقول علم النفس وعلم الحيوان والفلك ومجالات الخوارق.... 

سمير كان شخصا عجيبا يثير الاعجاب والقبول وحلو المعشر ومسالم وله قدرات عجيبة في كسب الاخرين وهدب من انفعالاته واخلاقه وسلوكاته مما جعله دمثا مقبولا من كل من يدنوا منه ويقترب اليه... 

ومع كل غنى شخصيته يبقى في جوانب نفسية منطوي على نفسه وخجول وبانفة جد عالية  وباعتزاز كبير لنفسه ولكرامته وهذا ما جعله ميالا للدراسات النفسية والبسيكولوجية والروحية... وهو الوحيد الذي كان يداوم على اداء صلواته الخمس في اوقاتها وبعيدا عن فضاءات المساجد وصلاوات الجماعة... 

لكن اخي خالد كان غريب الاطوار ومقفلا على راسه بالمفتاح والدبارة كان في العادة لا يستطيع التحدث بالصراحة اللازمة والاستثناء الوحيد كان يمارسه وبتحفظ  مع اخي سمير.. خالد كان مشغولا في فهم القوالاب ودراسة الانماط السيكولوحية والمجتمعية كان كمن يريد تاسيس فهم ومراجع خاصة به لوحده تمكنه من ممارسة ضبط عليها بما يفيد ذلك القدرة على استخدام قواعدها على النحو العملي الذي يؤدي به الى تصريف مسائله وايجاد الدعم اللازمة له والحصول على مكانة بهاهنالك.... 

فؤاد كان خارج نسقهما علم من البداية ان طريقه عليه ان يمشيها وحيدا ومقدر لها انها ستكون صعبة.. فؤاد في ذلك التحدي البسيط الذي قام فيه بتدبر شغل صيفي موسمي بشركة اثار الانتباه والاعجاب وكبر في عيوننا جميعا وهو كل ما جناه منها صرفه على لباس رفيع كان يتوق لارتدائه والباقي للقيام برحلة... فؤاد كان يخرج مع الاصحاب والصاحبات كانوا يعيشون المرح والفرح والعمر والشباب والنجاح... فؤاد كان يهتم بشعره وبقصاته وبلباس متحرر يصدح بالحياة فؤاد لم يكن منفصلا عن واقعنا وانما كان متصالحا معه ويعمل على تغييره بما يناسب المرحلة والمراحل التالية... 

فؤاد ان تشرب شيئا من سيدنا الوالد فهو بيداغوجيته واساليبه التربوية...فؤاد كان في كل احديثه ورسائله لاصحابه تعلمي ويقدم دروسا ويسعى للرقي بك لتكون الاحسن... فؤاد كان كسبورة بلا حدود مفتوحة في وجه كل من يريد ان يقرا او يتعلم.. كان انسانا جادا ونوعيا ومختلفا ويحب الخير للجميع والعحيب فيه انه متسامح ولا يحقد... 

انا منشغل بعد بنفسي وبمقدرتي وما ارتضيه لي خيارا او توجها او مسلكا..ويهمني ان اعرف الارض التي اقف عليها وبداخلي خاىف ومشكاك ومتردد وسهل الانكسار والانتكاس والعودة الخائبة للانزواء والعزلة والابتعاد عن كل الاشياء الحبيبة...

فؤاد اغناني بعلاقاته وفتح لي مجالا شاسعا وعميقا لاكتشف فيه انماط جديدة من الناس والمتعلمين والمتهدبين والعاطفيين الاجتماعيين ولاتفاعل معها بندية كذلك... اهداني اعز اصدقائه ليرعونني قليلا وليهتموا بي لخيري... 

تجاوز بي تلك المعرفة السطحية بهم معرفة الاخ الصغير باصدقاء اخيه الاكبر ليدفعني لاعبر عن نفسي...عن اهتماماتي..عن ما قد يشكل قضاياي...لقد كان يعرف انني كبرت كفاية ليصعب علي ابلاغ صوتي او التحدث بافكاري لمن هم من اقراني ومجايلي...لقد سمح لي بان اعبر بيسر لعالم الكبار بعيدا عن معيار السن والعمر الطولي والكمي...لقد اصبحت تلك المحادثات التي اجريها مع اصدقاءه مهمة لتطوري السيكولوجي.. وسنحت لي ان اوضح رؤيتي للموضوعات ولما يشغلني ولاانس عالم الكبار دونما ادعاء او مبارزة اغبياء... 

عندما كنت اياس من من حولي..اختار لي عالم الكتاب والقراءة واسافر فيه خارج الاحساس بالزمن او بالحاجة للاخرين..وكلما تجاوزت عتبة كتاب بدى صعب في البداية تقفي اثره ومتابعة حكيه الا وازدادت رغبة اكتشاف كتاب اخر وموضوعات اخرى وتجاوز عقبات تحصيل كامل الفهم من اول سطر الى اخر سطر في ورقات الكتاب.... 

كنت اتسلل للسطح واحيانا لغرفة اخواي بهنالك وقد حملت اي كتاب من مكتبة والدي اي كتاب في اي موضوع كان لا يفرق معي ما عساه يكون او فيما يخوضه...كتاب مطبوع وممكن قراءته وابدا استاناسه والتعرف على شفراته ثم امضي في طي وريقاته..الواحدة تلو الاخرى وكنت اكتفي بتسجيل ما استوعب انه اصطلاح علمي او تقني او مفردة معجمية نوعية..في ذاكرتي لاسال عنها احد اخوتي في اول فرصة اجتمع به...

كلما جمعني هذا الطقس العجيب مع الكتب ازداد احساسي بانني اكبر..اعي..وافهم..املك اللغة لاتواصل افضل مع العالم من حولي...

لم يعد عصي علي ايجاد الكتاب المناسب او المجلة المواتية للانكباب على قراءتها وقد اعتقني اخي فؤاد من هذه القيود التي كانت في السابق تحد من قدرتي على القراءة والتواصل اكثر مع المكتوب والمطبوع من اي نوع تاليفي وفي اي جنس او لون انشائي..اعتقني حينما نبهني لرحلة اكتشاف عوالم القراءة.. لمتعة معرفة كل شيء جديد واي شيء لم يسبق لي ان كونت عليه اية فكرة تذكر.. لسفر البحث عن المعنى وتكوين فهم لاباس به في موضوع ما... في اي موضوع وكيفما كان الحقل الذي يتناوله او يدرس فيه... وبالفعل كانت متعة عجيبة ان اغمض عيني وانتقي اي كتاب  وابدا في التعرف عليه وانشاء علاقة به... كان يكفي ان اغمض عيني لاستعيد المعنى وقد تشكل في ذهني واستجلى لي فك الرموز والكلمات التي اكون لاول مرة اقابلها قد قربني من بعض فهمها من محاولة فهمها وان لم يكن هينا اخزنها قريبة من بالي لانتهز اول فرصة السؤال عن فحواها فامكن من الايجابة.... 

وجدت لي عالما ممتعا يضمني اليه ويكفيني نفسي...عالما يدفعني باستمرار لاكون فهمي الخاص..فهم لعله بسيط ويعوزه العمق المناسب ولربما فيه قصور..لكنه فهم انا من بحث عنه وسافر اليه وغدا سيكون بامكاني ان احفر اكثر في حقله والقبض على اكثر ما يحفل به من معاني ويكشف عنه من معلومات ومعطيات....

عندما كنت اتعب انفس على نفسي بلعبة القص والتلصيق..كانت بحوزتنا مجلات فيه المكرر من الاعداد وفيها ما لا حاجة بالاحتفاظ بها ضمن مكتبة الوالد وهو من قال لي بذلك..فاتخير موضوعات بعينها لابدا في قص مقالاتها وصورها ومحاولة اعادة لصقها وترتيبها كما لو اعد ملفات عنها...وها هنا كانت متعة جديدة تستبد بي..متعة التعامل اليدوي والحسي مع الورق ومع الكلمات المطبوعة ومع الاشكال الطباعية ومع الصور ومع الاحجام وفي ذلك كنت انفس عن ذلك التنبيه المتواصل والمجترر من كافة معلمي واساتذتي عن ضرورة تحسين شكل خطي ورسمي للحروف والكلمات..كنت لا اجده ضروري حينما تمة الاكثر من وسيلة انيقة ودقيقة في الكتابة وطباعة النصوص وكنت اقول مع نفسي لن اعدم في يوم حتى انا من الحصول على ما ييسر لي الكتابة ورقن الكلمات بادق شكل وايسره على القراءة...

سمحت لي قرائتي الاولى للقصص والرويات المبسطة من نسج حوارات داخلية بيني وبين نفسي وحول الكثير من القيم النفسية والمجتمعية والبحث فيها والانشغال بها وحتى الاهتمام بها والهم بها قيم كالصدق والوفاء والكرم والصداقة والفقر والغنى... والكذب والظلم والحسد والسرقة.... حوارات تنامت وتناسلت بسرعة في ذهني واخرى كانت تترسخ عميقا في ذاكرتي وتسجل كحوارات ممكن ان استعيدها واستعرضها واقرا فيها دونما الحاجة للعودة لمصادرها الكتابية.. واصبحت من من يكون رايه الخاص ويملك ان يميز وينتقد سلوكا عن سلوك... واحببت اللعبة واستعذبت ان انسج حواراتي الخاصة مما اقراه واتعرف عليه... كنت ادرك انني على الطريق الصحيح لانهل المعرفة واصحح الافكار ولاكون رايا في الموضوعات وفي السلوكات... لم اعد قط ذلك الصغير الذي كنته والخائف باستمرار والمستوحش من البقاء لوحده طويلا بالبيت بالعكس وجدت لي مكاني في البيت وكان اي مكان يمكن ان اقرا فيه بهدوء مكاني... في الصباحات بجانب باب البيت في الطابق الاول حيث تفترش والدتي جلدة فراء الخروف وتجلس لتكمل خياطة ما بداته وهي مستانسة بضوء الصباح وباشعة الشمس التي تطرق النافذة وتتسلل لحيث تجلس هي واجلس حتى انا ممسكا كتابا انازله وبلا تردد عازم على اقتحام معانيه والاستحواد على ام افكاره ومضمونه..

كانت حكمة بسيطة واجهني بها اخي فؤاد  تفيد بان كل شيء يصلح للاكل وكل كتاب يصلح للقراءة فقط عليك تدبر الطريقة لفعل ذلك... 

كنت اكل اي كتاب يقع بين يدي اي كتاب لي ان افك رموز كتابته وحروفه وتراكيب الكلمات به امضي معه جملة جملة وصفحة صفحة ولا هم لي بان اخلص سريعا منه كما كان حالي مع القصص والرويات المبسطة...ملت لاقرا كل كتب المطالعة لكل المستويات المتوفرة بمكتبة والدي وكل الكتب المدرسية التي كانت لاخوتي وشدتني كتب التاريخ..تاريخ المغرب القديم والوسيط والحديث ثم تماديت وبدات يدي تمتد لكتب التربية والتعليم الخاصة بوالدي ومعها بدات افتح عيني على واقع جديد واعاود اكتشاف مدرستي وساحة مدرستي وفصول الدراسة بها وادهش من كونها لا تمت بصلة لكل النمادج المذكورة بالكتب ولا منهح الدراسة بها يشبه هذا الذي يتحدثون عنه ولا من طريقة مثلى لشرح درس في مادة كذا او كذا قريبة مما تتحدث به هذه الكتب.. لكن الجميل انني لم اصاب بالاحباط ولا بالياس بل باصرار على المزيد من مطالعتها وهذه المرة بنفس جديد كان يسمح لي بالتقاط النفس مابين فقرة وفقرة او محور ومحور واترك لنفسي الوقت لاهضم ما اضطلعت عليه واترك لخيالي الفرصة لاستعاب الامور وادراكها في بعدها الجديد... كان الوالد منتبها لي لكنه كف على ان يتدخل حينما عرف ان تعاملي مع الكتب برفق واحترام وبانني لا استهدف تخريب مكتبته.... 

تغيرت.... تغيرت لمستويات بلغية وانا اتعاطى مع الكتب بت اكثر هدوءا واكثر قدرة على البقاء والمكوث وحدي لساعات دونما ان اشعر بالملل او الضجر.. بت حريصا على نظافتي الشخصية واهتم بحالي وارتب من ثيابي وافعل مثل اخي سمير، الذي يقيم ممتلكاته الخاصة من ثياب واحدية ويعتني جيدا بها.. يفرز ما سيصبن لوحده عن بقية الثياب ويهتم بنشرها في الوقت والمكان المناسب كي لا تبهث سريعا وتضيع الالوان منها ويهتم بما يلبسه في المنزل عن غيره الذي يلبسه للخروح... 

وتغيرت حتى في خارج البيت..بت اكثر قدرة على تحمل نظرات الاخرين لي والتي عادت ما تكون المدخل للتنمر علي..وبت اكثر قدرة على ضبط انفعالتي الداخلية مع ميلي للبقاء وحدي في ساحة المدرسة او قريبا من الفصل الذي ندرس به بغير رغبة في مجرد التحدي بالتواجد لجانب الاخرين وفي وسط عراكاتهم والاعبهم العنيفة والبديئة...

لكن اهم تغيير احسست بالفعل انني خضعت اليه هو انني وضعت مسافة بيني وبين اختي الصغرى حبيبتي ورفيقة عمري وبيني وبين صاحباتها من بنات الحيران ومن تلك اللواتي يرافقنها بالمدرسة...لم يعدن على ذلك النحو الالي الذي اجدهن فيه صاحباتي بدوري حين انهن صاحبات اختي...او ان سوالهم عن اختي هو سؤال عني بدوري.... كنت اكبر في جسدي بدوره واشعر بتغيرات تمته لكنها لم تكن بعد علامات البلوغ ولكنها همت بالاساس نفسيتي وميولاتي واستقلاليتي بذاتي... بدات اشعر بانني مغاير عن الاخرين وليس كذلك فحسب وانما لا يمكنني ان اكون مثلهم لانني بشاكلة اخرى لا يجمعنا ذات الاحساس بالزمن او الوقت ولا نفس الرؤية للاشياء ولاعتبارها وكيف هي على الواقع وكيف كان لها ان تكون لو قيد لها ان يهتم بها ويصرف الجهد لتبديلها للاحسن لتكون كمثيلاتها في زمرات افضل... هكذا كنت افكر وانا اراقب الاشياء والفضاءات من حولي والناس وسلوك الناس... لم اكن استوعب التاثر بالقراءة وبالافكار كان الامر معقول على نحو عام وبسيط نقرا لكي نعرف نتعلم لكن دون ان ندرك ما الذي نريد ان نتعلمه ونعرفه.. وما الذي يستحق فعلا ان يعرف ويتعلم.... كنت غير مقتنع بطرق تعليمنا وتلقيننا بالمدرسة كنت امقت صورة معلمينا الرجل المحترم جدا سواء كان ببدلة قديمة او بجلباب ثقيل باهث اللون... سواء كانت معلمة بجلباب او بمعطف وسترة وشعر مسدول وغير مجموع... امقث فيه كل تلك المسافة التي يضعها بينا وبينه... وامقت فيه كل ذلك الاحترام المبالغ فيه لشخصيته ولشخصية مدير المدرسة ومفتشيها... كنت لا اقدر لعبة قف وانهظ احتراما لهذا او ذاك واكره بالاساس ذلك التقبل البليه الذي يصنعه ذلك المحترم به والمحتفى بقدومه.. تلك الابتسامة والنظرة الابوية الكاذبة التي يتصنعها.. وتلك اللطافة والود الذي سيتحدث به عندما يخص الامر اقتناء المجلة المدرسية "العندليب" او ورقة يناصيب او يومية الوقاية المدنية او المساهمة في اليوم المدرسي للنظافة... هنا فقط كانوا يبدون انسانيون وان بحدود لاننا لا نمنع رؤسنا ان تنسى ما يحتسب على ذلك المعلم من المعلم الاخر ومن بقيتهم ومن منهم غير متساهل تماما ومع الجميع ومن منهم متساهل مع فئة  دون الفئة الاخرى ولماذا...!؟ وايهم اكثر تسليطا للعقاب البدني على العقاب النفسي والعقوبة المنزلية.. وايهم تمت اجماع على انه منبوذ من جميع التلامذة وحتى اهاليهم.... لم اجد عندي بعد صورة المعلم الفضلى التي اوجدتها في ذهني ولزمت تفكيري لوقت طويل ونحن نهمس بموصافاته بيننا كمجموعات وكاصحاب نتبواح ونعترف برؤنا لبعضنا البعض ونتحدث عن سخطنا الخاص من الاوضاع وننتقدها بذلك الحس الانساني البرئ.. لم املك بعد ان اكونها تامة ولكن عندي ارهاصات نحوها.. توارد صور واشكال بعد لم تترتب وتجد الوعاء الذي تنتظم عليه... كنت كما مع اشياء عديدة اجدني اعرفها.. ادركها كلية في مجموع ما لكنني لا استطيع التعبير عنها في مفردات واضحة او جمل مرتبة او لا املك ان اصيغها في فكرة بسيطة واضحة لا لانني لا ادركها كذلك وفي مستويات قريبة من ذلك ولكن لربما لانني لم يسبق لي ان تحدث بها ولا حاولت ان افعل ذلك... انا سبق وان عشت مثل هذه الحبسة عندما كنت اريد ان اطلب امرا من والدي او احد اخوتي وكان يلزمني ان اتدرب على طريقة القائها واظل ارددها كي اعقل جيدا عليها وبعدها مباشرة انطلق لالقائها واسعف في غالب الاحيان... 

لقد كنت ارفض الادعاء والزيف... كان ارفض تودد معلمي لي بحضور والدي على انه في الحقيقة على غير ذلك معي ولا يتقبلتي في فصله الا على مضاضة... ولنفس الاسباب التي قد اجهلها.. اجهل تشخيصها واجمالها في صفة او نعث او في جملة واضحة... كان يلزمني ان اطور من قدرتي على التحدث مطولا مع نفسي دون ان ازيغ عن نقطة البداية التي انطلقت منها.. كان يلزمني ان اركز مليا لاحاول ان احسم في فهمي واحدده.. اصيغه... وكان يلزمني ان اكون اكثر صدقا مع نفسي وبشجاعة كافية للاداورني والتفت على وعي وعلى ما استحضره ببديهة ويكون هو الى ابعد حد ما يشكل الحقيقة كما ادركتها لا كما ممكن ان يدركها الاخرون او يتحدثون عنها في محامعهم.... كان علي مثلا ان افهم ان معلمي يحابني مراعات لوالدي وغير ذلك لا يملك ان يكلف نفسه مجهودا اضافيا معي لجعلي في تمام الاستعاب لدروسه وقادر على ان احصل على اعلى التقديرات... ذلك كان يفعله مع عينات اخرى بالقسم مع ابناء اولئك واولئك او من يستهويه التعامل معهم من بنات وصبايا حلواة ضريفات او احيانا مع مشاغبين عنيدين كمحاولة لشراء السلم منهم او معهم.... انا مهما علا شاني فلست غير ابن معلم زميل له تعب هو الاخر مثل تعبه هو من احل تعليم ابناء الشعب الذين لا فائدة ترتجى منهم ان لم يكونوا من ابناء ذوات او وحيدي والديهم الحريصين بكل السبل على ان يتعلم ابنهم او بنتهم ومصرين على بدل اي شيء لتحقيق المنفعة تلك..... 

اصبحت نزقا املك ملاحضاتي الخاصة حتى فيما يخص المقبول واللامقبول من معلم عن اخر...كان منهم من لا يقبل الحواب الا من ما لقنك اياه وبصيغته الحرفية لا يصبر علي حتى للحظة لاوصل له جوابي الصحيح فقط لانني اقوله بنحو ما اعقله او ما اضطلعت عليه في احد الكتب التدريسية التي حصلت عليها من خزانة والدي وقرات فيها بكل تمعن وتركيز....وكان منهم من تشعر بانه لا يحبك ولا يتقبل التعامل معك لوجه الله... هكذا خالصا... ومنتهى مع يجعله يلتفت اليك ويتعالى ليتعامل معك ان تنسحب للظل وان تكف عن مضايقته بطلب المشاركة او بمراجعته في حين لم يتسنى لك كامل الفهم.... 

واصبحت يوما على يوم امتلك مفردات جديدة ولوحدي بدات اعمل عقلي وفهمي لاحدد بالكثير من الدقة مدلولها ومعناها الخاص والمميز...بدات اعي معنى الزمرة والفئة والطرق المثلى ومجموعات الاقران والعينات والنمادج...وعدد من المفردات والمفاهيم التي كانت تتضح وتنجلي لي كلما استمررت في الكتابة واقبلت على العودة لما سبق ان اضطلعت عليه ومر على ذهني وانا اقرا تارة بيسر وتارة ببعض الصعوبة في تحصيل الفهم او كامله....

تعلمت ان اطوي الكتاب او الكتيب او الدورية او المجلة او الكرسات المطبوعة واخد كامل وقتي لاعاود السفر في مضمون ما قراته ولاعاود استحضار ما تعرفت عليه ولاصيغ اشبه بمحصلة تكون كزوادة اضافية لي في يوم قرائتي الخاصة هذا.... وهذا كان يهبني احساس مهما وبليغا باهميتي وبانني لا ضيع وقتي في الخواء او في اتيان اي شيء.. مجرد اي شيء.. وبانني ماض في طريقي اكبر... واعبر العمر بسرعة الضوء.... لكنني مع ذلك لا استطعت ان اتجاوز تلك الرغبة في البكاء وتبليل وسادتي بالدمع قبل ان اخلد للنوم واحيانا بساعات على نوم من معي بالغرفة... اكانت امي واختي الصغرى او اخي فؤاد وبشرى الصغيرة... شيء ما او اشياء ما كانت تباسني وتجعلني قلقا وخائفا من ان اتعثر وان لا اصل الى اين في كل حياتي وفي كل ما يمكن ان احلم به... شيء او اشياء كانت ترعبني وتجعلني لا املك ان اشعر بالسلام بل بكل خوف من ان اصحوا على فاجعة وعلى زلزال او عاصفة تهد كل البيت الذي يأوينا...  

امتلات بالتردد واصبح مزاجي سيء خصوصا عندما لا اكون في حالة تسمح لي بان اختلي للقراءة..اصبحت اكثر قلقا ومرهف الحواس...اشعر بانني اكثر غيابا عن ما حولي..وعن من حولي...اكون بين تلامذة فصلي ووسط قاعة الدرس لكنني لا اكون معهم..احيانا اكون مسافرا في ذاكرتي..استحضر صور بنات خالتي واولادها ومتعة السفر لجانب ابن خالتي محمد...واتذكر احلى ابتسامات الفرح على ابنة خالتي "اسية"...واحيانا لا اخرج بعيدا عن الفضاء الذي انا فيه...اظل على حالة اتامل القسم...جدرانه..المستطيلات الاسمنتية المركبة منه..وسطحه القزديري المضاعف الحجم والصلب..نوافده التي تفتح من تحت وتسند لعمودين جانبين والتي اغلبها فقدت زجاجها وعوضت بشرائح بلاستيكية قاسية..شكل القسم الواسع طولا وعرضا والذي تقع السبورة الكبيرة فيه بعيدا وتحتها طوار يمكننا من الصعود فوقه للكتابة على السبورة وتمكن معلمنا من الظهور العالي..الشامخ ببزته البيضاء التي تكون حينا كبالطو الاطباء الجراحين او كبالطوا خدام المطابخ...الاربعة مصابيح المتذلية الصفراء الاشعة التي تصدر من لمباتها وبقدر من الشحاح...الخيط الكهربائي المتسخ بالغبراء التي تبدوا كصوف عليه...الباب المطلي بالاخضر الغابوي الغامق...اقارن هذه الاقسام بالاخرى الموازية لها على مسافة عرض كل ساحة المدرسة والتي بها سقف اسمنتي وباب ادراي انيق وتبدوا حديثة ليست كالاخرى التي اجدها اشبه بحضيرة ونحن خرفان ونعجان وبقر وثور يدرسنا...في مثل هذا الجو الممطر والكئيب والمظلم مساءه بسرعة ولازالت تفرقنا اكثر من ساعة ونصف على انتهاء الدوام المسائي...وعندما اكون بالبيت بسطح البيت لوحدي اراقب ولا اراقب صبية الحي متمعون..يلعبون..يتصايحون فيما بينهم...وانا ولو حتى رغبت في ان اشاركهم الاعبهم اكتشف ان لا مكان لي بينهم فانا لا اجيد لعب كرة القدم ولا التجاري ولا "المعابزة" المصارعة...ولا لي من حركات جنباز اتقنها لاستعرضها وحتى الاعيب البي لست شاطرا فيه واصغر بنت ستفلسفني في لحظات....فاظل انظر اليهم ولا انظر اليهم وانما انظر اليهم وانا في نفس الان انظر لنفسي افحص ذاتي...اقارنني بهم..ابحث عن ما يروقني فيهم وما امقتهم في بعضهم..وفي مستوى اخر اتصالح معهم لانه كان بامكاني ان اكون معهم وحتما كان هناك على الاقل واحد الى اثنين سيسمح لي بمشاركتهم الاعباهم وسيجد لي مكانا او دورا بجانبهم وسيحاول تاهيلي وتشجيعي وتحميسي للدور وسيقول لي بانني سريعا ساجيد اللعبة واتقنها....كان سيمحمد الشكذالي دائما يفسح لي المجال كما كان حسن بنسليمان على انه يصغرني من اكثر المرحبين بي ومن يزرعون الثقة في نفسي وقدرتي على مسايرتهم اللعبة...اما فريد فلقد كان يرعاني من بعيد وفي كل اشواط اللعب كان مهتما بان لا ابدوا بسوء المبتدئين والخائبين....كان ينتقد وقوفي وجمودي كان يدعوني للتحرك ولاعلاء صوتي والتحدث لباقي الافراد كان يقول لي:""اخصك تطلق الطبيعة مع الدراري اخصك تحنقز..تهدر..." ويعلق سيمحمد الشكذالي:"" بش توعار اصحبي....."

كان بالامكان ان لا اكون على هذا المزاج واكون معهم اصيح واتهيج وانفس عن ذاتي وطاقتي...لكنني بدات افهم الان بان بامكاني ان انفس عن طاقتي باساليب اخرى اكثر تهديبا ورقيا وعودة بالفائدة..وبانني لا يمكنني ان اقبل بان ابقى نفس الطفل الذي كنته والذي لربما لم يعد يتنمر عليه من ابناء حيه ولكنه يعرف مستواه بينهم وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه ويعرف حيدا انه غير منذور ليعيش مثل حياتهم ويلاعبهم نفس الاعيبهم....وهذه الافكار وحدها كانت كافية لتعكر مزاجي ولتجعلني مهموما واحمل اسئلة اكبر مني كسؤال ما الذي اريده مني؟! ما الذي عساي اصنعه بنفسي لنفسي!!؟ حين ان اهم شخص كان بامكانه ان يحولني ويصنع مني شيءا فريدا ونافعا وناجحا غير مهتم بي ولا بنا كلنا في هذه الاسرة.. فقط يهتم بنفسه وبحياته وبمتعه.... اذكره جيدا واذكر يوم عاد ليلا في تمام الوقت الذي يعود فيه كلما كان الغد يوم عمل بالنسبة له.. كان يعود مابين التاسعة والنصف الى العاشرة ليلا دونما تاخير عن ذلك يذكر.... وكان يرتدي معطفا خفيف الثوب من النوع المشمع الذي كان في ابانها يعتبر صيحة الموسم وكان المعطف 3/4 بلون نبيدي غامق (عكري)وكان حديثا قد اشتراه من اخر زيارة له لسبتة للتسوق...وكان فخورا بارتداءه ورفع ياقته على عنقه مع ترك شال خفيف من الصوف بنفس اللون مع خطوط فاتحة متدليا على فتحة الصدر المقفول بازرار كبيرة...وكان يبدوا كالمفتش كلومبوا في السلسلة الامريكية البوليسية ودخل الوالد متفكها معنا وعلى نفسه وهو يسالنا رايه في شكل لباسه وهندامه...:"اكي جيتكوم...ا..ا. "..."وهذا ماشي مفتش كلومبوا هذا راه الكوميسر كلومبوا....."وانا انظر لامي وهي تسايره بضحكاتها لم اعرف كيف تقمست الوالدة وافكار الوالدة وحقيقة ما لعلها كانت ستعلق به صراحة لو ملكت تلك الصراحة والشجاعة في اعلاءها ونطقت بدون نية خبثية وانما فقط بتذاكي:"ويه هذا راه الكوميسركلومبوا ديال السكايرة..."

وفجاة انتبه الوالد لي وبنظرة جانبية مكفهرة وغاضبة وتحرك نحوي مندفعا يكيل لي الضربات كيفما جاءت وكيفما اتفق معه لكمات او ركلات او صفعات او شد بشعر راس....لم لملك حتى اخراج صوت البكاء الى ان انتهى مني وتركني ساقطا مترنحا على الارض ابحث عن نفس اتزود به لاخرج الصرخات المكبوتة والمحبوسة بصدري ولاندلع في الغواث والبكاء دفعة واحدة ككلب مصدوم....كنت مندهشا من انه فقط اساء تاويل تعليقي فكل الذي اعتقدت انه سيلتقطه مثل الدعابة وانه باعتباره محتسي للشراب فهو اذن استطاع التسلل لحيث السكارى الثملين وتمكن من القاء القبض عليهم اي انه انهى عمله كعميد شرطة بنجاح....لكنني فهمت عنه لاحقا ان جرأتي عليه من لم يكن ليستسغها او يقبلها على نفسه وسلطته....وانا لو فعلا كنت لاجرا على قول ما يعنيه لي سلوكه وما تكونه صورته لي لصدمته بحق لربما جعلته يدوب من الارض ويتبخر كما لم يكن له وجود مادي او حضور جسماني....

والدي وانا اعرفه كما لا يعرفني هو ومحال ان يكون قد عرفني في يوم من كل ايام حياته...والدي وانا اعرف وجعه شديد...وجعه ثورة مكبوتة في وجه رب اسرته..وجعه سببه انعدام العقل واللامنطق والحساب كذلك والدي تلقى تكوينا مركزا وسبقه تكوين اساسات لغوية واملائية ونحوية وقاعدية.بالاضافة الى انه قارئ لكتاب الله وفوق كل هذا وذاك شاب بعد في مقتبل العمر وسليل عائلة من قياد وخلفاء قياد وبشاوات وشبوخ ومقدمين عاىلة كانت داىما في قلب السلطة والاحداث والعائلة باجمعها تعتبر عائلة مالكة للاراضي والضيعات واللبيوتات والمساكن وكل اخوته تلامذة مدارس واعداديات بما يعني ان المستقبل يجب ان يكون لهم لكنهم بما لا يفهمون لماذا لا يتقدمون من يحد حقهم في التحرك والمضي للبعيد.... بالتاكيد كانوا مستوعبين بانهم لا يملكون قرارهم لوحدهم وان اب لهم من يقرر ويختار ويفعل ما يشاء ويقدر ما يريد... اب بيده كل السلط ليفعل ما يشاء وليقدر قدر كل واحد من ابناءه.... 

والدي لم يكن يوما راضيا على ان يكون والده ملاك ويملك ويحرمهم من حقهم في الترقي والحضور الاجتماعي ولا يختار لهم الا عيشة الدراويش البسطاء وتكوين الرجل في الميدان اي ان يكون نفسه بنفسه ومن الصغر.... 

كانوا مغبونون في كل شيء ولا حق لهم الا ما يحققه والدهم له وما يدخل تحث تصرف والدتهم ومقتصديتها وهي كانت بحكايات اخرى.. مرة تكرم نساء البيت على حساب رجاله ومرة العكس ومرة تعملها سياسية تقشف عام... 

لقد كان الخير وكانت الخيرات لكن حولت الى دراهم ودراهم لخرب وبيوتات قديمة وحاونيت.. وحولت الى بذخ موسمي ديني يخرجوا له ثورا ودبائح ولباقي الايام طعام بقياس وطعام جاف كذلك بقياس وعلى الكل تدبر نصيبه ليرفع من قيمة الطعام.... 

والدي عانى الحرمان وعانى الجوع وعانى البرد وعانى الفقر دون وجه حق ومع ذلك صمم على ان يقطع الطريق وان يقيم نفسه وهكذا الى ان حصل على الكفاءة المهنية في التعليم واصبح معلما موظفا تابعا للدولة 

والدي ببساطة لم يتجاوز عقد نقصه وحرماناته الغير المشبعة والتي رافقته من اول طفولته الى ان غدى شابا يافعا.. 

والدي يحمل سخطا وكبتا عضيما على كل المجتمع وكل اركانه لا يجد نفسه قادرا على ان يتصالح مع ماضيه ولا مع حاضره الذي لم يناوله ما كان يستحق ان يتناوله فعلا... 

والدي لم يسمح له بحتى ان يحلم احلاما كبيرة لان راسه امرغت في الواقع.. الواقع الذي انشاه والدهم لهم وافهمهم حدودهم 

والدي درس كتاب الله والنحو وقواعده كاي فقيه لانه كان يتجهز لدور عظيم واتمه بتعليم عصري بمدارس المستعمر وكان مستعدا ليمضي بعيدا فيه ليحصل على منصب لائق به...لكن الامور لم يكتب له ان تاخد ذلك المسار لانه لم يكن مسنودا واساسا من والده وعائلته....

والدي احباطاته خربت نفسيته وادمانه على الخمرة اتلف ذماغه وحول سلوكه لينحوا نحو العدائية والتسلط والتنمر والسيكوباتية

 



Tariktariko

 ماذا تركت خلفي حين ودعت جماعة الرفاق في اواخر سنة 1988 ؟! هل تركت مكانا اشعر حقا بالانتماء اليه ..؟! هل تركت هدفا يعوزه التحقيق ..؟! وهل فع...