الثلاثاء، 22 مارس 2022

يوميات : عوالمي السرية.../ انا واخوتي...


 لا حاجة لي في ان احكي قصة ولا في ان اخلف اثرا ورائي... كي افكر في ان اخلص سريعا من سرد احداث واغلاق النص بداية بعنوان ونهاية بتوقيع او تاريخ... همي لا يتعدى الرغبة في البوح ولربما محاولة الاعتراف وقد يتعداها الى رغبة قوية في استجلاء كل ما لم اقوى على نحو واعي من الوصول الى كشفه عني وعن رحلة العمر التي اوصلتني الى ها هنا... 

انا نفسي ادرك ان مرحلة تطوي مرحلة من عمرنا وتاخدها بعيدا او عميقا في تلافيف الذاكرة حتى لنخال ان العمر كله هو ما نحن عليه ونعيشه الان والباقي او ما كان بكل تفاصيله لا يتعدى ان يكون ذلك الماضي الذي كل دوره انه اوصلنا الى ها هنا ويكفي اننا ها هنا والباقي كله مجرد تفاصيل لن تغير من حقيقة وضعنا في هذا الحاضر...وان تلك الرغبة في حكي حكاية قد تروادنا جميعا على قناعة بانها قد لا تضيف الكثير وقد لا يستهوي العديد متابعتها.. وليكن.. انا ما همي بقص حكاية هذا الذي اكونه وانما بمحاولة اعادة اكتشافه كما كل الاشياء التي اعتقدت فيها طويلا ولربما اتى علي زمن لانكرها علي... 

كنت ذلك الطفل الذي يتعلم من الاخرين..من محيطه..من من ياخد بيده ويعرفه اسماء الاشياء وموقعها من الوجود ومعانيها...كنت ذلك الكائن الذي يحس بالاشياء ويفهم او لا يفهم تماما ما تعنيه تماما ولا كيف يقولها الكلمات ويعبر عنها في جمل وتعابير...ولكنه يختبرها حسيا ويكبرها تخيليا وهو يسافر معها في محاولة القبض على معانيها ذاتيا دون ان يستوعب تماما بانه بذلك النحو يطور من ذاته ويصنع تفرده...

كنت ذلك الطفل الذي وجد نفسه باسرة وبقدر صنع الجزء الاكبر منه دون ان يستشار او يخير او يكون له اي دخل فيه....وادرك وهو يدرك بداية حجمه وقوته من بين الناس بانه محكوم به ومقهور عليه وكل جهد قد يبدله لن يكون كافيا تماما في تغير القدر الذي اوجد له قبل ان يخرج للوجود وقبل ان يبدا في ادراك الاشياء من حوله.... 

حدث ان رفضت واعليت نبرة الاحتجاج في وجه كل من اراد اخباري انه قدري وان علي ان اومن به واقبل باكرهاته...كان السيد الوالد عندما اطالبه بفعل شيء حقيقي لمساعدتي على خلق وجود اجتماعي لي مختلف يرفع كتفيه بلا مبالات وبالكثير من السخط ويقول لي:"انا مشي وزير ومكنعرف حتى حد..دبر لراسك..خرج دور على خدمة...خرج دور....."كنت اشعر به انه بداية غير مقتنع بما يدعوني لافعل وانه كل ما يحاول فعله ان يجعلني أيأس واقبل باي شيء قد اقابله...ان تكبر الحياة علي وانهد واقنع باي شيء اجده...ان اتعب من اللف والدوران والفراغ وتبدا احلامي في الاضمحلال امام نفسي وابدا في تقليد الاخرين على اعتبار انني لن اكون احسن منهم مهما حاولت وان اقصى ما يمكنني فعله السعي مثل سعيهم والسعي مثل اي مهدود وقليل الحيلة منهم يوازن قدرته قدرتي على تدبر الحلول وابتكار المخارج من الورطات والمطباث....

لم اكن لاعاند..لم اكن مجرد معاند بقدر ما كنت مقتنعا بانه علي ان لا ارضخ لواقع الحال الذي يضعوه امامي بعدم محاولتهم لمساعدتي عن حق بداية بالاقناع بمقدراتي وثاليا بمدى اختلافي عن الاخرين.... 

الان والبارحة فقط اعدت على نفسي نفس الاسئلة وكان اليوم هو يوم عيد الام...وامي بعد باقل من نصف السنة من ان فارقتنا وودعت دنيانا..لماذا رفضت وباصرار تام على ان اخدمها لذلك الحد الذي تنكشف امامي عورتها...؟! لماذا لم اقبل ان اتبادل معها الادوار وان اعاملها كما عاملتني وانا طفلها تهتم بنظافتي وتطهيري واغتسالي دونما وضع ذلك الحاجز النفسي الجنسي وهي تتعامل مع جسدي...كامل جسدي الذي تكون بداية في احشائها وخرج لحظة الوضع من جسدها من ذلك الجزء من جسدها...؟! انا قلت ببساطة ووجاهة لربما بان المشكلة ليست عندي تماما وانما في نوع التربية التي تلقيتها والحدود التي اسسوها هم والتي علي ان لا اتجاوزها... كنت اقول بانني لم اتربى في السويد لاتعامل بمنطق مختلف عن ما تقول به بيئتنا وتقاليدنا وعادتنا... كنت اعرف في قرارة نفسي وعلى نحو واعي بانني اقول بافكار رجعية وبانني متناقظ مع افكاري التقدمية والتحررية وبانني استسلم للطابوهات التي قطعت معها وانني لربما على نحو اتلكك واصنع صنعا تلك الحواجز النفسية والسيكولوجية.... لكنني كنت اعود لنفسي واقول لا وكلا لست انا من يفعل او يلجا لتلك التبريرات او يقبل بها وانني متصالح مع نفسي ومع جسدي ومع الجسد عموما وكيفما يكون موقعه في دائرة القرابة التي تاطرنا اجتماعيا وانني ومن زمن طويل واجهت نفسي وسالتها عن تلك الحدود وبحث في شانها وخلفياتها ووجدت نفسي اهيأني عمليا للتعامل معها بكل حيادية وبدون اية خلفيات دينية او اخلاقية او اجتماعية بالية... ومضيت لاساءل نفسي بعيدا حتى سيكولوحيا وفي ما يمكن ان يشكل عوائق ذهنية كصور قد تلصق بذهني وتتعقبني وتكبتني او تحسسني بالذنب او بانني على وشك ارتكاب الخطء او الاخطاء والزلات.... من زمن بعيد كنت اعامل والدتي كصاحب لها وجسدها مني ومنه انا ولا خوف علي ان اتركه يتسلل الي ويقلقني او يوثرني وهو قد يتجسد ويحاول تعقبي كاخلية جنسية او حتى ان يتشكل كرغبات مكبوتة من شانها ان تضعني في بلبلة نفسية ولا اعرف كيف اتحاوزها او اتخلص منها... كنت استحضر ذلك الفهم القاصر الفرويدي عن عقدة اوديب وعن الجسد او الرغبة المحرمة... واضحك لانني كنت على قناعة بانني تجاوزت فهمها واستعابها السطحي والمرضي ونفذت الى اعماق ما تحيل عليه وتتناوله وتريد التعرية عليه.... انا قد ازعم بانني اعرف نفسي جيدا وكذلك اعرف فكر ومراجع الوالدة والاحكام الاجتماعية التي تاطر فهمها وتعاملتها.. وكنت الى حد بعيد اعرف انها في قرارة نفسها ترفض الاحساس بالضعف والاشفاق عليها وان تتوافق احتماعيا مع فكرة انها قد اعدت احد ابناءها جيدا ليتعامل معها ومن اجل ان يرعاها ويخدمها الى اخر نفس من عمرها وبكل ما قد يتطلبه وضعها... وانها كانت تعدني لذلك وهي تسرد لي قصة ابن ابن اخيها الذي راعى عمته في احرج اوضاعها ومتطلباتها وبيني وبينها ودونما حديث واضح او خطاب صريح كانت تقسوا علي وتستفزني كي تخفف عني لوعة الفراق الاخير انا الذي "قدر" علي ان لا افارقها وان لا افارق عشها كل عمري... وكان علي ان افهم وان اتواصل معها بلغة خاصة جدا تعبر خلالها عن اسفها.. عن خالص اسفها لما صنعته بي.. لما جبلتني عليه ولما كانت تهيئني اليه والذي كان انانية منها لم تراعي احساساتي ولا رغباتي انا.... 

وجدتني اقول لا... لا عالية... لا يمكنني ان اضطلع بذلك الدور وانني لا اطمح في نيل اي رضى ولا وعدا باي جنة او فردوس في الخلد يضمنه لي شرف خدمتها في امور جد خاصة وحميمية... طرحت جانبا كل استعدادتي وتنكرت لها بكل انفصام على ما انا بالفعل قادر عليه واستطيع القيام به لا خوفا من اشكالات ذهنية او سيكولوحية ولكن بالاساس لانني تعبت من كل ما ظل يلاحقني من وصم اجتماعي قاس ومن كل ما ظل يحاصرني به الاخرون وهم يقحمون انفسهم بلا اي وجه حق ويسالون موضوع هويتي وجنسانيتي واختياراتي.... لا.. لن اقبل اختبارا وابتلاءا اخر قدريا من صنيعة مجتمعنا وتخلفه وصراعاته وتناقضاته... لن اقبل ان استغفل اجتماعيا من جديد ولو تحث اية مسوغات كانت.... لا اريد ان اكون ابله القبيلة من جديد.... 

القدر نحن من نصنعه ونعلقه على السماء كي نخلي مسؤليتنا عنه... القدر صناعة محتمعية واتفاق اجتماعي  او تواطؤ اجتماعي كنا نحن المحكومون فيه والمجبرون على ان نختار فيه لكننا لا نريد الاعتراف باننا نحن من اختار وفضل ان يختار فيه بحسب ما تقتضيه مصلحته الفضلى... مصلحته هو وعلى الحميع ان يتضامن معه ولو بالصمت وتجاهل الحقائق الموضوعية التي لم تراعى او غيبت وتجاهلت...  

كل الخلاف الذي عاش بيننا كل عمري انا واخي الاكبر لم يكن خلافا شخصيا او عاطفيا وانما كان خلافا على سلطة الاخ الاكبر الذي،عليه ان يساير نظم وقيم واختيارات السلطة الاكبر منه التي كانت بملك الوالدين لانه يستمد سلطته منها لا من غيرها....

كل التجادب الذي عاش طويلا بيننا لا تمكن من ان يبلبل مشاعري نحوه واحساساتي بانني احبه اكثر مما قد يشكل موضوع حماية لي لكنه كان تجادبا واعيا مقصودا ومؤسسا على رفض ان يفرضوا علي ما يقولون عنه انه قدرنا وقدري... لا سيدي بامكاني ان اعلنها صريحة وعالية ومزلزلة قدري يخصني انا وحدي وانا من املك ان اصنعه ولن اقبل باي تفصيل لادوار على مقاسكم ومقاس ما يناسبكم وما يخدم طموحاتكم وسقفها.... 

في اخر ايامها وبعدما تمكنت من ان تصنع حاجزا ماديا بيني وبينها واطمانت الى انها انتصرت على اي تزحزح في موقفي اواقدم اي تنازل من طرفي لسابق ارادتها لم يكن يفوتها لتقول بكل اللغات احبك واسفة على انانية كل واحد منا....لم تكن تكثر من طلب ان اسامحها كما كان يفعل السيد الوالد قبل ادراكه انه على وشك ان يوقع نهايته...ودون ان امكنه من سماع انني سامحته او لم اسامحه لانني كنت لا اجدها ذات موضوع يهمنا في مثل ذلك المقام حيث ليس ذي اهمية او يعنينا امر ان يتحقق في مثل تلك الظروف التي اقل ما يمكن نعثها به انها تاتي واتت متاخرة جدا وفي غير اوانها ولن تحتمل اي معنى اخر غير انها لن تتعدى امال او مطامح اخر ساعة التي لن تحدث اي اثر مرجو او مطلوب.... 

بقيت متصالحا مع نفسي حتى برحيلها واسعدني انني حاولت جاهدا وبالرغم من كل تازم وضعيتي النفسية من ان احاول فعل اي شيء من اجلها دونما احساس بانني اوفي دينا او انتظر جزاءا ولا حتى خائف من الاتي بعد رحيلها....

ما همني نفسي ولا مآلي بالقدر ما همني انني وحتى وان قد لا اكون توفقت تماما في رعايتها واوفيت في السهر على راحتها الا انني جاهدت كي ايسر عليها ساعة الرحيل.... 

قدري بكل عناد صنعته وربما كان مليئا بالخيبات وتاريخه تاريخ ازمات ونكسات وانشرخات لكنه كان القدر الممكن جدا ان اتشرف بعيشه واكون الوفي فيه لنفسي اكثر من اية قيم او اخلاق او معايير غريبة عني وعن مراجعي....

انا كنت ذلك الطفل الذي تنبه وهو صغير جدا بان عليه ان يكبر وان يستوعب حجمه الحقيقي..حجم وعيه بما يدور من حوله ولما يود الصنع منه لا ان يظل ينؤا ويشكوا من ضعف بنيانه ورخو عضلات جسده...وللان يسعدني ان اكون قد حصلت على اخ مغاير ومنفرد ومختلف وعارف مثل اخي الاكبر مني اخي فؤاد....

يؤسني عميقا كبوة الزمن التي تعرض لها على نحو دراماتيكي اخي الاكبر خالد الذي اقول عن مصابه في نفسه اكثر من جسده او حضور جسده اجتماعيا هو الذي لعله اقتنع بانه مسيطر على كل شيء في حياته واتت عليه اللحظة التي فندت اي ادعاء بانه المسيطر بكافة الاحوال على حياته وعلى شكل وقالب تواجده... نصنع قدرنا اكيد لكن الحياة اقوى منا ومنطقها يخصها وحدها وتصرفه فينا بما تشاءه هي لا نحن ومع ذلك اظل متمسكا باننا نحن من نصنع قدرنا في كافة الاحوال بالرغم من اي اكراهات او اجبارات تمارس علينا وتعترض طريقنا....  

كان يفهم ويعي انه مدفوع اكثر من مخير او ممن يقرر في مصيره ولم يحاول ان يفعل شيىا ليغير من ذلك الواقع.. انساق وراء قدر صنعه له السيد والدنا.. فصله له تفصيلا ولا انتبه لالعيب الزمن والحياة حتى اخدته على حين غرة... لو كان من من ترك لنفسه ان يلتقط الانفاس ويراجع نفسه ويرحم نفسه من الجري والعدو في كل مضمار وعلى الاكثر من صعيد لربما ملك ان يفطن ان لكل فارس من كبوة.... لست من يخاصمه او ممن يتشفى في مصاب الاخرين لكن من من خاصمتهم وخاصمت نهجهم طوال عمري دون ان انكر خالص محبتي له... اظل وابقى انا الطفل الصغير وانا اصغر اخوتي في كل حال وعلى اي حال... 

كنت صغيرا..طفلا بعد وكانت الافكار تاخدني بعيدا لاستشفاف ما عساها تكون الاسرة والعائلة والاخوة والابوة والامومة وكل تلك المرادفات الاكثر قربا منا والتي لا نتقبلها بمجرد ما تقدف لوعينا ويقول بها المحيطون بنا ولكننا نتساءل طويلا حول مفهومها وحول ما تتضمنه وما يمكن ان يشكل حدودها...كنت ومن بعد ان اخد اخي يختفي بالايام وبالاسابيع يشغلني غيابه واهتم لما كان يحدثه حضوره..وامضي في التقاط اثاره واقف عند اشياءه الخاصة ومكانه من جلستنا على المائدة وفي غرفة التلفاز وعن ساعات تواجده الاعتيادي بالمنزل وعن الاخرى التي يكون فيها خارجه... واتصفح ذاكرتي واحاول استعادة فهم علاقته بي ولماذا يكون لطيفا في تلك اللحضات والمواقف وحاد الطبع عصبي المزاح في اخرى واتساءل حقا عن ما يجمعه بي.. وعن ما تكونه تلك العاطفة التي تقول بانني احبه وهو كذلك وهل دائما وطوال الوقت او في اغلبها او في لحظات فقط... وكان يكبر علي حضوره في البال واسترجاعه في ذاكرتي لما اعرف انه سيحل بيننا قريبا او في ذلك اليوم بالتحديد... واظل على مضض اترقبه وحيرة تهز مشاعري لانني لا اعرف كيف سيقابلني وهل سيعقل علي ام سيعقل فقط على تلك اللحظات التي كنت بشكل او باخر اثير عصبيته واجعله يثور في وجهي ويهم بضربي والتي انكره فيها واتنكر لاي عاطفة احسها تجاهه لاعود وبعدها فانسى بمجرد ما يعود مقتربا مني ومقربا اياي منه... واتساءل هل من جديد سيكون علي ان اقف بعيدا عنه مستمرا في مراقبته والتفكر في طريقة لوكه للكلمات وكيف يصوت الحروف وكيف يبتسم ويتفكه وكيف يضحك ويقهقه وكيف يتهندم ويرتب شعره الخشن وكيف يتعطر وكيف يحرص على حمل منذيل معه ليمسح باستمرار العرق من يده وينسى اننا نحسب عرق قدميه اكثر من مجرد البلل الذي يتركه في كفك عند ملامسته له او على خدك وحتى على شعرك حتى وهو لا ينفد لحد ان تشعر به حقيقة على شعرك... نحسب تعرق قدميه وما يخلفه من رائحة كريهة باستمرار وللا سبب سوى لخلل في غدده التعرقية.. وكيف لا اقبل منه قبلاته على خدي وهو يحرص على تلثيمه بشفتيه وليس مجرد ملامسة الخد وكيف يكون عليك ان تحرك ساعدك لتمسح البلل الذي تتركه قبلاته المطبوعة على الخد.... واعود لافكر في كيف ساقابله وكيف ساقبل منه ان ياخدني معه للخارج في اول فرصة ممكنة وقد تكون في غد يوم قدومه وقد تتاخر لبعدها بيوم او يومين اضافيين واتساءل عن هل ستكون شكلية ام سيهبني كامل الوقت بصحبته والتحدث الي ونقل ما يراه يصلح لي من خبرات جديدة حفضها وادخرها لي خصيصا بطريقة يريد بدوره ان يقول لي انه فكر في واهتم بي حتى وهو بعيد عنا وعن المنزل وغائب في مدينة فاس حيث يكمل دراسته الثانوية التقنية في شعبة الفنون التشكيلية... واعود لافكر من جديد في مثل اختياره هذا وهل هو موفق فيه كما كان يتساءل اخوتي الاكبر مني في صدد ذلك واحاول ان افهم خصوصية دراسته تلك وافاقها ولماذا ينظر اليها ببعض الاستغراب والدهشة ويعاودون النظر اليه مليا وكانهم يحاولون اعادة اكتشافه وميله الفني بالاضافة الى دراسته التقنية لها من كل من يساءله عن ماذا يفعل في دراسته خارج المدينة وانا اعرف انه قبل ان يجيب سيرفع سبابته ليعدل من اطار نظارته المذهب بحركة شبه اتوماتيكية تلازمه كلما شعر بالحرج وكيف سيفكر في اخد سجارة وتناولها على انه في نظر الاخرين ليس بالكبير كفاية ليعتاد التذخين فهو اناذاك بعد في سن السادسة عشرة والسابعة عشرة وان يتصرف كالكبار ويحرص على ان يلبس كالكبار وغير مبالغ في التميز كالفنانين بغير كشكول صوفي في موسم البرد والامطار واخر حريري في مواسم الربيع والصيف بالاضافة الى كرفاطات العنق الرفيعة الحجم.. وحتى سلوكه لم يكن فوضويا او هبيا بويهميا كعادة الفنانين بل كان اقرب لسلوك السياسين وذوي الحضور الاجتماعي العلاقاتي... كنت اتساءل ان سيظل حريصا هو على الاقتراب مني وتخصيص وقت كاف لي او تراه سيقصره كعادته كلما طال حضوره وتواجده بالبيت معنا حيث يتحول اللقاء به مجرد لقاءا عابرا ولحضيا وحتى ولو اردت انا ان اطيله لا اجد منه التشجيع الكافي فاعود لانسحب من حضرته واتركه الى ان يشاء هو فينادي علي ليكلفني بامر او ليستعن بي في مسالة او ليقترح علي ان اصاحبه الى مكان ما ومعناها انه لم ينساني ولا يتحاهلني وكل ما في الامر انه كان مشغولا ومنكبا على انجاز الاكثر من مسالة وحالما فرغ منها او قرب من ذلك ها هو ينادني وهاهو سيخصص لي وقتا.... 

كان الاخ الاكبر لنا... وبمجرد انتقالنا الى منزلنا الجديد بالعرائش اتخد مسافة منا.. اصبحت هناك مسافة مكانية بيننا حتى ونحن نعيش بنفس المنزل لانه اصبح بغرفة مستقلة يشاركها اخي سمير.. غرفة بسطح المنزل يقضيا بها اغلب اوقاتهما وينامان بها... كانا خارج البيت.. خارج ابواب منزلنا.. بسطح المنزل ويملكان مفتاحا خاصا لغرفتهما.. واصبح من شانهما ان يقابلا اصحابهما بها ويقفلا الباب عليهم بها.. كانا يسلكا سلم الدرج من اول باب البيت باكمله الى السطح مارين على الطابق الاول الذي نسكنه جميعنا ولا نسكنه جميعنا لان غرفة السطح اضحت عبارة عن مسكن خاص بهما.. ولم يمضي وقت طويل على وصولنا الى مدينة العرائش حتى رحل اخي الاكبر الى مدينة فاس ليقضي بها ثلاثة سنوات وليرحل في سنة 1983 الى فرنسا وبعده بعام يلتحق به اخي سمير وفي دجنبر1987 قررت الرحيل دون ان احسب جيدا معنى الرحيل وما قد يكونه حقيقة ولا هل انا جاد فيه.... لكنني كنت مسكونا بالفكرة لدرجة الجنون.... من مارس 1972 الى يونيو 1978 حيث وصلنا الى مدينة العرائش كان عمري  ستة سنوات والتحقت بالسنة الاولى ابتدائي في الموسم الدراسي 1979/78..وفي 29 دجنبر 1987 كان عمري خمسة عشرة سنة واشهرعندما نفذت المحاولة الثالثة على ذلك النحو الدموي بنية الرحيل واللارحيل لانني كنت كمن يقامر ولا يعرف حقيقة ما قد يقابله.. كنت عندها اكرر السنة الدراسية في مستوى الرابعة اعدادي.. ومن هنالك..  من ذلك التاريخ تغير كل شيء في حياتي.... لانني اصبحت هرما كشخص شبع من كل الحياة 

اخي الاكبر كان قد عاد من فرنسا والتحق بالمدرسة الجهوية لتكوين الاساتذة في شعبة التربية التشكيلية بمدينة طنحة وبمنزله المكترى هنالك قضيت ليلة راس السنة الميلادية 1988... 

كنت طفلا صغيرا بعد ولا كانت تفوتني هواجس وافكار وخواطر تنظر في حالي من حال اخوتي الذين يكبرونني وماضون في استقلاليتهم بانفسهم واختيار مستقبلهم... صغير لكن بكامل القدرة على ان اسمع جيدا لما يدور بينهم ويشغلهم الحديث عنه ولانظر فيه من موقعي ولاتساءل في شانه وما قد يعنيه لي انا بخصوصيتي وباستقلاليتي عنهم كذلك... كانت الاربع سنوات التي تفصل الاخ الاكبر مني "فؤاد" كافية لتجعله يبتعد عني باستمرار كي يستحيل ان الحق به ولو مجازيا ما ان اقتربت من صفوف الاعدادي حتى كان هو قد رحل الى مدينة تطوان ليستكمل تعليمه بذاخلية جابر بن حيان التقنية... بقيت الى جانبي اختي الاصغر مني بعامين رفيقة وحبيبة لقلبي وبقي يرقد داخلي ذلك الطفل الخائف والمرعوب والغير قادر على ان يعبر عن وجوده الا بالانكار... ذلك الطفل الذي داوم البكاء تحث الغطاء قبل ان ينام ويصبح مهدود الحيل وبلا خاطر او رغبة في ان يفعل شيء وانما فقط يملك القدرة على التظاهر والاستمرار فيه الى حد لا يعرف منتهاه ولا مستقره...  

كنت اعرف انهم يكبرون وانني لن الحق بهم يوما حتى ولو كبرت بما يكفي لاعد كبيرا مثلهم سيبقون اكبر تجارب مني واسبقهم اليها مني..ما كان ممكن ان احتك بهم وارافقهم مراحلهم العمرية وكانت خشيتي ان يبتعدوا عني لدرجة يصبحون غرباء عني او كانني لا اعرفهم....هم غادروا البيت الذي اوانا وجمعنا ببعضنا وعرفني عليهم...وغذت لهم بيوتات ومستقرات غير هذه التي لازلت تأويني... وماضون في صناعة اقدارهم بما قد لا يكون لي مكان لجانبهم فيه... كنت بما لا اعرف كنهه اشعر بالافتقاد لهم كلما كبروا وكبرت بدوري... وكان يخيفني الفراغ الذي اضحت عليه حياتي داخل البيت الذي كانوا للامس القريب فيه لجانبي وقربين مني حتى ولو كان لكل واحد منهم مساحته الخاصة ومسافته مني... كنت اخاف من ان يكبر حجم هذا الافتقاد ليتحول لما يشبه الموت وان تنتهي كل تلك المشاعر التي جعلت منا نعترف ببعضنا اخوة واخوانا... واسرة صغيرة نعيش جماعة ونتقاسم مستويات العيش فيما بيننا.... 

كنت اعي الاحاديث التي كانت تدور بينهم.. بين اخي خالد واخي سمير سوية وهي تامل في ان يمضي الوقت سريعا ليتخلص كل واحد منهم من مغبة العيش ها هنا بهذا البيت مع هذا الكائن الغريب الذي ندعوه والدنا وكانت الاحلام تتناسل بينهم وكل وطريقه فيها اخي سمير ما كان ليرى سبيلا للعودة او للعيش داخل هذا المجتمع وهذا الوطن لو تسنى له ان يفارقه واخي خالد يعده انه سييسر له ذلك دونما شك لكنه لا يضمن له ان يستطيع تحمل العيش في الغربة كما يتصور هو الذي لم تنزل قدمه خارج المنزل لان سمير هو الوحيد الذي بقي بالبيت اطول فترة متتالية دونما باقي اخوتي الكبار... 

كنت ادرك هول ما يتحدثون فيه وانا ارى ذلك البون الشاسع بيني وبينهم... بين احلامهم وما قد تكونه احلامي  واخاف ان افيق ذات يوم على  واقع انهم ذهبوا كي لا يعودوا او كي لا يعدوا الا كزوار وضيوف لايام ثم يعاودوا الرحيل... كان اشبه بانهيار تتعرض له "الاسرة" كما كنت استوعبها.. كما كان يجسدها تجمعنا ولمتنا ونظراتنا الى بعضنا البعض في تلك اللحظات العصية التي كنا جميعا نمر بها امام تجبر وفرعنة السيد والدنا وقهر وذل ومهانة والدتنا.... 

كنت اريد ان اقوى بسرعة اكثر من اي رغبة في ان مجرد ان اكبر...اريد ان استقل بدوري عن ارتباط عاطفي يشدني ويضعفني وكان يكفيني ما كان يفعل بي تعلقي بوالدتي وبدموعها وقلة حيلتها..لقد كان يهدني من الداخل وينسفني باستمرار لدرجة ارى من المحال ان تكون لي قومة من بعدها ولا ريش فوق جناحي لاطير ذات يوم واندفع خارجا من عشها....

تمنيت من خالص قلبي وفكري ان اتقوى وان اسند نفسي بنفسي قبل ان اصبح وحيدا بلا اخوة ولا اخت الا من والدي ووالدتي...الا من والدتي واستفراد الوالد بي وبها وكم كان صعب علي ان اتغذى بالافكار وحدها وان اضمن بها وحدها ان اتقوى في عالم مثل عالم مجتمعنا الغارق في التخلف والرجعية والمحكوم بالقهر والدين...

بقيت لي غرفة اخوتي بالسطح وبقيت لي غرفة اخي سمير بالسفلي البيت بعدما استعدناه وما بقي الوالد يقبل بكراءه لاحد من الناس وبقيت لي اشياء كل واحد منهم امانة بعضها وعطايا البعض الاخر منها كما اشياء اخرى محبوسة وموقوفة بذاكرتي عن كل واحد منهم... واشياء اخرى ناقصة كامال واحلام وتخيلات ما قدر لها ان ترى النور يوما... وبقي ذات الحنين الى كل واحد منهم... حنين لا يرتوى حتى بعودة اي واحد منهم ذات يوم قبل ان يعاود الرحيل لحيث غذى مستقره الشبه نهائي او النهائي للحياة داخل اسرتنا.... 

كرهت ان اكون انا صغيرهم وكرهت ان اكون اصغر من يدرس في الفصل واصغر من يجرا على فعل هذا او ذاك الفعل او الشيء او يتحصل على هذا اللقب او الجائزة...كرهت ان يكون علي ان اعقل دائما على وجودهم بيننا لانني انا من لبث هاهنا ولا غادر قبل اي احد فيهم....

كنت اتعب من تقدير معنى اسرة..اخوة...اخ اكبر واخ اوسط واخ يكبرني واخت تصغرني واخت اكبر غير شفيقة ووالد ووالدة...وعائلة ما عادت كما كانت من يوم ان رحلت جدتنا "رحمة السلطاني" في اكتوبر 1981 وخاصة بعد ان بيع جنان العائلة وفوت منزل الجدة لعماي وعمتي فاطنة ومينة وما عاد المنزل منزلنا بصيغة الجمع وانما منزل نشعر فيه بذاك القدر من الاغتراب ووجودنا فيه وجود ظيوف وزوار ليس الا.... سحقا على الاكاذيب كيف بيعت لنا... سحقا على العواطف كيف قيد لها بعد ان كبرت وجاشت ان تعاود وتصغر وتضعف وتتحول الى مكايسات ومواضعات مناسباتية... لم اكن اعرف تماما ان كل هذا سيتحول عبر الايام ولو كنت اعرفه تمام المعرفة لما امنت به ولا سمحت للقلب ان يغص بكل حب هؤلاء وهم حالما سكبرون ويمضي بهم العمر سيفارقون وسيهون عليهم البعد وسيعتصم كل واحد منهم بمكانه وببيته وبعالمه ولن يعود لايام صيف ان تجمعنا ولا ليوم جمعة ببيت الجدة لمة لكل افراد عائلتنا وحتى زيارات الاهل والاقارب تتباعد وتنقص حميميتها... فراغ هائل يعتصر قلبي وخراب كبير يمس اركانا من ذاكرتي التي ما كانت تعقل الاحداث وحدها وانما لجانبها كل الامال وكل الاحلام وكل وعود صادقة او غير صادقة كنا نقطعها على بعضنا البعض... 

كل الذي نذبت نفسي له كان عالم الصمت وكل حكمة خرجت بها من ما عبرته طولا وعرضا في حياتي القصيرة ذات الخمسة عشرة سنة كانت الصمت ان اتعلم الصمت وان اقوى فعليا على ان اعيش لوحدي...خالصا لوحدي...

علمني الكلام ولغة الكلام واهداني حكمته القاسية حكمها والمريرة عيشتها حين لخصها لي في ان اتعلم الصمت وان ارتضي العيش لوحدي وان اكتفي بنفسي ووحدتي ان كنت اريد حياة العمق والمعنى والثراء...كم كان الحكيم اخي فؤاد اكبر من كل زمانه وكم خبر وخبر ولا يزال بعد يحسب نفسه في اول الطريق...

وكم يؤسني انني ضيعت كل ما حاول ان يعلمني اياه اخي خالد بعد ان عدت وتعلمته من مصادره الحقة لاعاود فاقدف به عرض الحائط واقول عنه انه لا يعنني ولا يهمني ولا حاجة لي به ولكم دينكم ولي ديني...ما ارتضيت في يوم اسلوبه ولا صنعته في الحياة ولا قيمه التي لا تشبه اية قيم ولا نظرته للحياة وكل ما ابقيت لي منها لقبي الذي اختاره لي في يوم السيد عميد ادارة مراقبة التراب الوطني بالعراىش فكان "الدرويش" ابقيت على الدرويش الذي لا يريد من كل حياة يمجدها ويدعوا اليها اخي خالد وشاكلته من الناس الا ان يعيش "درويشا" لا هم لي بسياستكم ولا بقانونكم ولا بعلاقاتكم ولا بسوقكم ولا بمراتبكم واوساطكم والقابكم.... اخي الذي اعقله واعرفه جيدا كان دائما هكذا برغماتيا وانانيا وبقدر من الجشع والطمع ولا يحب في الاول والاخير الا نفسه ولا تهمه في الاول او الاخير الا مصلحته ولا هما له بان تقف الدنيا او تقعد ما دام هو في احسن حال ومن لا يعتبره ويقدره يمحيه من كامل وجوده واعتباره وهو على ذلك طيب المعشر ومكايس اجتماعيا ومتواضع مع اعراف وتقاليد المجتمع والطبقة التي يضع نفسه فيها دون ان يضع في يوم حذره وانعدام ثقته تقريبا في كل الناس... انه النسخة المعدلة والمنقحة من سيدنا الوالد عميد عائلته التي سكن معظم افرادها الان المقابر بينما هو الان عميد العائلة الكبيرة الممتدة والذي بما لا اعرف كيف له ان ينجح يحضر ابنه بهاء الدين لعمادة كل العائلة وهو ما اراه محال ان يتحقق لا لان العائلة امتدت وكبرت وتشعبت بل لانه جنس لا ولاء له لاية قيم بما فيها العائلة لذلك لن ينجح ولو تحوز على كل لقب كبير وكل عناصر الثروة... 

اذكر اننا كنا نستجم بشاطى مولاي بوسلهام عندما اخدنا الحديث ليتكلم لي عن ملاحظة سجلتها عليه صديقة له اجنبية وهي انه مثالي مما قد لا يسمح له بالانسجام مع الواقع الاجتماعي المادي الذي نعيشه في حاضرنا الان... لقد خبرني اخي سمير انه لا يرى نفسه كذلك لانه يمتلك قيما وحريص على ان يظل وفيا لها... وان تنظيم الاعتبارات الروحية والقيمية مع المتطلبات المادية قادر على ان يرفع من مستوى عيشنا وليس العكس.. وقال لي انه بالفعل تخلص من تلك المثالية الزائدة التي تشعرنا بالاغتراب والابتعاد كثيرا عن الواقع لكن دون ان يكفر بقيمه.... ولعل هذا ما اسجله بالكثير من الاسى على انحياز ذاك اكثر واكثر للحياة المادية ولجوانبها الشكلية اكثر فاكثر من اي اعتناء بالقيم الروحية وبالعواطف الكبيرة السامية.... 

حدث واعلنتها ان اخي الاكبر سجل تراجعا كبيرا في اختياراته السابقة وانه التفت مجددا لما كان متغافلا او بعمد قاصيا اياه من اعتبارته بمجرد ما تجاوز مطباثه المادية وحسن من وضعه المادي الاجتماعي ورفع من مستواه الاقتصادي المعيشي وانه بالفعل عاد لقيم المشاركة الوجدانية والعاطفية والاحساس بالاخرين والتفت لما سقط سهوا منه او اسقطه في رحلة شاقة ومتعبة ليرتقي بمستواه...وانه لا من عيب يسجل عليه في خطواته هذه واستعاداته تلك لما لم يكن ملتفتا اليه ولا مقبلا على ايفاءه حقه بالقدر ما قد تسجل لحسابه الخاص كخطوات ايجابية تصحيحية وكان لازم اتخادها لتجسد رقي وعيه كذلك لجانب رقي وضعه ومكانته...اقولها وقلتها لقد تغير وتغير بالفعل وللامام وللاحسن حال اخي الاكبر الانساني والوجداني ولم يعد ذلك الذي لا يفكر الا في نفسه ونفسه فقط وقبل اي شيء او شخص اخر مهما كان قريبا منه.....

في علاقتي مع اخوتي... مع كل واحد منهم على حدى.. وفي علاقتنا مع بعضنا لم نكن مثاليون ولا متكلفون بقدر ما كنا نملك تلك القدرة الرائعة على ممارسة النقد والنقد الذاتي وعلى نحو ساخر وكاريكاتوري ولا باس من رفع نبرته بيننا مع مراعات قدرة كل واحد على حدى وخصوصيته ودرجة حساسيته من النقد في موضوعات بذاتها... لم نكن نتحرج من خلق جو اشبه بالدعابة ونحن جادين في توجيه انتباه اي واحد منا لمكامن ضعفه ونقصه وعيوبه الفادحة وانحيازته الخاطئة... كنا نعتقد بصدق اننا بنوايا طيبة وحسنة نتحرك ونندفع في اثارة مثل تلك الاجواء لنمرر فيها رسائل حقيقة ولنلفت الانتباه الواجب اخده بهدف القلق اولا به والتفكير ثاليا فيه نحو العمل على تصحيح السلوك او موقع النظر للموضوعات خصوصا فيما يتعلق بالوضع التفاعلي مع الاخرين ومع المحيطين بنا.... كنا ننكث ونتفكه ونمارس ذلك النقد اللادع كي لا نتهم بالتقصير في الاهتمام ببعضنا البعض ولا في تجاهل خير كل واحد منا وخيرنا اجمعين.. ودون ان ندع لشك في صدق نوايانا او عواطفنا تجاه بعضنا..... 

لم يكن ممكن ان نتقدم ونحن نبني بعضنا البعض على الغش والمجاملة ومجرد المحابات الزائفة... كان يلزمنا ان نتخير فقط الاشكال والاوقات المناسبة لنقول الاشياء كما ينبغي ان تقال ولان نسمي الاشياء باسمائها... 

اعرفه كان قريبا جدا لوالدنا وكان مدينا له بالكثير بل لعل حتى شخصيته ما كان ليصنعها ويجدها بما هي عليه وتمتاز او تنحاز اليه لو لم يكن بكل ذلك القرب من السيد والدنا... لعل حتى دراسته وولعله بالقانون وميله للسلوك السلطوي واعتزازه بقدراته على صياغة الاحكام الاجتماعية والتاويل العلمي للاحداث والوقائع الاجتماعية المختلفة يعود لما خلعه عليه الوالد من سلطة كانت في الحقيقة خاصة بالوالد ويمتاز بها وضعه الاعتباري والاجتماعي كمن يمتلك ما ندعوه بالسلطة الابوية بالاضافة لسلطته الذكورية في مجتمع ذكوري بامتياز... وانا لم اناصبه اي عداء وانما خاصمت فيه هذا النزوع وذلك القدر من التسطيح للاوضاع ومثل تلك القراءات الفوقية للاحوال العامة والخاصة بعيدا عن تناول عميق ونفسي واناسي لها.... خاصمت فيه  محاولاته في كل ما من مرة وقد اقترب مني ودنى اكثر مني ان يقزم من افكاري وتوجهاتي واختياراتي ومحاولته الاخرى لتازيمي وسد الخناق علي بنظرته الواقعية البرغماتية للحياة وللوجود الاجتماعي ولاشكال تنظيمه.... ما كان قادرا على تصور ان الافكار الكبيرة تصنع الهامات الكبيرة وتغير الواقع ووقائعه.. كان فقط يحاول التبخيس من اي شيء لا يكتسب الشكل المادي وقوته ووقعه... كان لا يرى اكثر من الحقائق الاجتماعية المتداولة والشعبية والقاصرة على فهم الواقع كما ينبغي فهمه واعلاء التحدي في مواجهة ميكنزماته والياته المبسطة والغارقة في التجسيم والتسطيح..... وانا كنت ارفض ان يحجم من ذاتيتي ومن كامل ما يصنع رؤيتي للوجود وللحياة وان يجعلها مجرد معادلة كم تملك وكم تساوي وهل انت معتبر اجتماعي كما ينبغي....؟!!... 

الاختلاف والقبول بالمختلف عنه وبحقه في الوجود والسعي لاثباث ذاته ووجاهة اختياراته هو ما لم يكن يقبل به الا شكليا والا من باب التظاهر بانه حداثي ومنفتح الذهن والثقافة... كلنا كنا نعرف انه محق في توجهاته وانه يعرف بالضبط ما الذي يريده وانه جاد في الوصول اليه لكن دون ان يعني ذلك اننا قد نكون متفقين معه كليا فيما يسعى او يدعوا الى السعي اليه.... الى ها هنا وكنا نحسم الاختلاف بيننا وكلنا لاننا كلنا لم نكن مطابقين لبعضنا البعض ولا نسخا مكررة لبعضنا البعض ولا دخل لكوننا نعيش نفس الواقع ونفس الاوضاع ستكون لنا نفس المواقف ونفس الرؤى ووجهات النظر والتصرف منه....

بعد كل هذا العمر الذي راكمه كل واحد منا في سجله وتاريخه نعرف اننا للان لا نشبه بعضنا البعض ولا كنت لاكون من قبل الان او بعده اشبهه بمثل ما كانوا يحسبونه مني... كنت ولا زلت معجبا بالكثير من جوانب شخصيته لكن دون ان اسعى لتقليده او لبسه بالمقلوب.... كنت انا انا بمثل ما كان هو هو ولا حاجة لي لاوازن نفسي به او لاقبل ان احاكم بمنطقه وبمنطق الذي يسود بمجتمعنا.. 

الثلاثاء، 15 مارس 2022

يوميات : عوالمي السرية..../ طائر بلا جوانح...


 بكل هذا التجريد وجدتني نبت داخل هذه الاسرة وعائلتها الكبيرة... وجدت جدة لي اسمها رحمة السلطاني وعمين وخمسة عمات وسادستهن ماتت قبل ولادتي وبالمقابل هاهناك لم اجد لي بعد لا جد ولا جدة من جهة امي وجدت خالة اسمها زهرة وخال اسمه محمد واسرتيهما وبعدها بامتداد الايام باتوا يقدمون لي افرادا اخرين من العائلة هولاء بنة خالة الوالدة وهولاء ابناء عمومة الوالد وهذا خال الوالد وهذا عم اختي الغير شقيقة المتوفي والدها... وهذه الزوجة الثانية لخالي المتوفاة زوجته وام عياله محمد ويامنة والزهرة... عائلة الوالدة من جهة طنحة وعائلة الوالد من جهة العرائش وجماعة الساحل وقريمدة ورقادة.. 

نبت بعد خروجي من مستشفى الغابة بالقنيطرة داخل منزل مكترى بحي افكا الخبازات وقيل ان الوالد في انتظار خروجي للوجود كان يتابع برنامح تلفزيونيا عن القائد البربري طارق بن زياد فاستلهم اسمه واطلقه علي...فاصبحت ادعى طارق ولما كنت صعب التربية ودائم الصراخ والبكاء اضحت والدتي تناديني "هذا الطارق ديال الراس...."وعما يحكونه عني ان اخوتي كانوا يتناوبون على من يحملني بواسطة حمال على ظهره وانهم كانوا فرحين بمقدمي الا ان شيئآ من حتى بقيت في صدر الوالد الذي كان يتمني ان يكون المولود انثى...

كنت صغيرا يصحبني الوالد لمدرسة اطلس الابتدائية وفي عمر قارب الخمس سنوات وضعني في قسم اخر يديره معلم اخر اعقل ان اسمه كان سي مهدي..وطوال الايام والاوقات التي قضيتها بذلك الفصل لا تخلصت لحظة من توثري وقلقي ولا اعقل اي شيء تعلمته هاهناك ولا ذاكريات لي الا عن مساء احسست بانني في حاجة للانصراف لدخول الحمام وكلما رفعت يدي مناديا المعلم ينصرف عني كمن لا يراني ولما بقيت واقفا رافضا ان اعاود الحلوس جاء لعندي ونهرني على انني قلت له بحاجتي الشديدة للدخول الحمام والزمني ان اجلس لان وقت الانصراف قد حان  وبمجرد ما جلست كنت قد قضيت حاجتي تحتي بسروالي الذي اتسخ وتبلل...وبدات في البكاء والنحيب لم اجرا على طلب حضور والدي لكنني كذلك كنت في نفسي انتظره وبكل شعور بالاهانة والخجل يستعر داخلي.... 

لا اذكر انني تعلمت حرفا واحدا ولا درسا واحدا بفصل سي المهدي لانني كنت سبق وتعلمت كل ذلك من والدي الذي كنت ارافقه لفصله ويهتم بتدريسي شخصيا ويعتز بمرافقتي له والمشي الى جانبه كرجل صغير وليس كطفل يستدعي والده في كل لحظة ليحمله او يطلب منه فسحة ليتبول وكان والدي يحرص على ان يقتني لنا تفاحة او اصبع موز يقشرها بموس صغير محمول في سلسلة مفاتيحه ويطعمني قطعا منها.. كانت احلى طعام اذكر انني تناولته في كل حياتي الى جانب قطع الشكلاطة الثخينة التي كانت تاتي بها اختي مليكة من مدينة سبتة وتطعمها لي بيدها وراسي موضوعة على حجرها... والى جانب حبات الفرولة الحمراء النظيفة والحلوة التي كانت تهبني اياها جارتنا ام كريم وسمير ابناء ساعي البريد الذين يقطنون بيتا بابه مقابلة لباب بيتنا. والى جانب خبز ابيض مذهون بقطع الجبن جيأ لي لتناوله مع علبة نصف لتر حليب بارد وانا مقيم بمستشفى بيني مكدة للامراض العقلية والعصبية بطنحة... واي شيء اخر تناولته في كل حياتي لا تتعدى قيمته عندي بانه مجرد طعام.. طعام وحسب على انه قد تكون لبعض منه قيم حسية استطاعت ان تجد لها مكانا اثيريا في ذاكرتي لكنها ابدا لن ترقى لما ذكرته من اطعمة طفولتي وطعام مراهقتي "العنيفة"..  

نبت بين اخوة اشقاء ثلاثة ذكور واخت كبيرة غير شقيقة وبعد عامين ستحل الصغيرة"بشرى"...

يحكى عني انني كنت ما ان اجد فرصة لاحبوا واخرج للزقاق حتى ابدا في التهام التراب..احفنه بكفي الصغيرتين وادفعه لفمي وابلعه...وتنسب صلابة راسي لما اكلته من تراب في صغري حسب نفس الراوين من اخوتي ووالدي...

نبت في اسرة لم تكن عادية وقد لا تعتبر كذلك تقليدية وحظوظ نجاحها ليست عالية بحسابات البيئة الاجتماعية والثقافية السائدة... 

لا اعرف كيف انتكس الوالد ولا كيف تصيد في زواجه بوالدتي فهو لم يحرص على الزواج ببنت بكر وانما بتيب وام طفلتين فقدت واحدة كما زوجها العسكري...ولا اعرف حقيقة نواياه ولا دوافعه كل ما اتساءل حوله هو عقلية الذكر الذي قد يضحي بطقس الافتضاض وبطقس انه يكون هو الاول في حياة امراته....(اختي غير الشقيقة للان وبعد رحيل والدتنا لااخال قد قدرت على ان تسامح والدتها التي تحسبها تخلت عنها لتتزوج رجلا اخر غير ابيها المتوفي..)..

والدتي كانت تشتغل ببيع الدقيق وبعض السلع التمويلية التي كانت تهربها من منطقة طنجة الى مدينة العرائش وبهنالك تم التعرف واللقاء وقيد الاتفاق على الزواج...

والدي كان شاب وسيما ويهتم بشكله وهندامه وقد حصل على شهادة الاعدادية من تطوان التي لجا اليها صحبة اخيه الاصغر محمد بغية اتمام دراستهما...والدي كان كبير اخوته الذكور ووالده كان وجها معروفا وذا مكانة بمدينته على ان حرفته الاساسية كانت بيع السمك لكنه كان يحوز على املاك واخوه كان من قياد المخزن وعائلته من اعوانها وشيوخها ومقدميها...والدي لا نسي ان يذكرنا مرات ومرات برحلته لتطوان وبايواءهم من طرف يهودية صاحبة نزل صغير وعن رحلتهما مع الجوع وعن سندويشات الفلفل المشوي والتي كانت صعبة حتى هي الاخرى في النوال....ووالدنا لا يفتا عن عرض ذكرياته في سوق السمك ببلاصة المدينة والتي كان يشتغل ويعاون فيها السيد والده.. جدنا كان وجها معروفا بالسوق وكان من عادته ان ينادي على سلعته من الاسماك وباللغة الاسبانية لغة حاضر الحال حتى بعد انتهاء الاستعمار رسميا... 

بترتيب الاحداث التي لم اعشها بطبيعة الحال فوالدتنا لم تمكث الا اياما او بضع اسابيع من عقدها القران بوالدي ورحلت معه لمدينة تعينه الاول مدينة القنيطرة والحاصل ان والدي ابانها كان قد انهى تكوينه بمدرسة تكوين المعلمين وانهما في سنتهما الاولى رزقا باخونا الاكبر "خالد"...

والدتنا بلا والدين حيين وحتى التعويض الذي كانت تقبضه من الحكومة الاسبانية التي كان والدها جنديا في صفوفها قطع عنها ولما ذهبت لمقر القيادة الجهوية بتطوان لتسال عنه قيل لها انها ماعادت تستحقه وقد بلغت الثامنة عشرة ربيعا...

والدتنا لم يكتب لها ان دخلت كتابا او مدرسة..امية تماما...ووالدنا معلم اللغة العربية درس لجانب الفرنسية اللغة الاسبانية..

والدتنا لم تكن تحوز املاكا او اراضي ولا تحث يدها مال وفير اللهم ما كانت تتاجر به لتعيل نفسها وابنتها التي تركتها عند اختها..خالة البنت.. 

عقدا قرانهما بلا حفل ولا زغاريد وجاءت اختها وزوحها من طنجة ليتم التعارف بين العائلتين ثم عادت الوالدة لطنجة حتى مقرب الذهاب مع زوجها للالتحاق بمكان تعينه القنيطرة..لم تعش الوالدة بمنزل حماتها وما كان لها من مكان به فهو في مجمله غرفتين غرفة للذكور وللرجال وغرفة للاناث وللنسوة وغرفة صغيرة بها خزانة مرة تستعمل كبيت للخزين ومرة يتناوب عليها اما فرد من الرجال او من النسوة وحسب الاوضاع... اما المطبخ  فهو كوخ قزديري بسطح المنزل به كانون حطب وبجابنه مخزن للحطب وعليه فلقد كانت كل الاواني والقدور مكفسة مفحمة وسوداء من وضعها على نار موقد الحطب... بالبيت حنفية واحدة بمدخل باب البيت وللاستعمالات المتعددة يحمل الماء  في انيات وبراميل وقدور للسطح.. اما الحمام فهو مجرد حفرة مظلمة تقع تحث سقيفة الدروج المودية للسطح.... 

منزل الجدة للدخول اليه يجب مرور مدخل طويل بعرض المتر والربع الى المتر والنصف ولمسافة اثني عسرة مثر او اكثر وتجد الباب التي عليك ان تنزلها لبهو صغير توحد به الحنفية الوحيدة بالبيت ويبقى امامك درجين لتنزل للبهو المنزل ودرج للنزول والدخول الى كل غرغة..غرفة...كان المنول غارقا ومحاصرا وسط منازل ولعل بابه الاصلية كانت من جهة زقاق عمودي حيث يوجد الفرن التقليدي الذي كان مقتطعا من البيت في زمن اخر... هي حلقة مربعة في حدود الاربعة امتار مربعة ما يدخل الضوء ويهوي البيت الغارق بين المنازل والذي بلا اية نافدة للخارج... 

والدي كان شابا للتو اكمل تعليمه وتكوينه في مدرسة المعلمين ولا اعرف بالضبط لماذا استعجل الزواح وهو بعد لم يقبض راتبه الاول من وظيفه ولا حصل حتى على شهادة الكفاءة والترسيم...

انا لا اعرف اشياءا كثيرة عن ماضي العائلة وكل ما اعرفه محصل حكايات ورويات متفرقة ونتف من هنا وهنالك ومما لا يمكن جمعها كلها في سياق واحد وتقديمها على انها تاريخ للعائلة... 

ما همني من هذا التقديم هو محاولة معرفة خلفية زواح والدنا بوالدتنا وتقديم بعض الصور التي اعقلها انا بالضبط عن وضع بيت جدتنا وحالة معيشتهم بعدما نبت بينهم 

لا اعرف كذلك على وجه اليقين ما موقف الصبي الذي يخبر ان مجيأه كان مخيبا للامال وانه جاء عكس ما كان متوقعا ومتمنيا ان ياتي في اسرة كانت في حاجة للتنويع الجنسي في افرادها وكان لها اصلا ثلاثة ذكور وما كانت في حاجة لصبي ذكر رابع... نبت  بين ثلاثة ذكور لربما كان علي منذ البداية ان اقدم لهم اسفي لانني خيبت ظنهم في ولم اكن البنت التي ينتظرونها بحرقة شوق.. نعم نبت فقط كواحد زائد غير محتاجين له.. واحد اضافي قدم كطفيلي يشاركهم قوتهم وفراشهم ويضجرهم بصراخه ومتطلباته.. ولم ياتي باية قيمة مضافة....

والدي ضحكت له ايامه انهى دراسته الاعدادية بنجاح وكذلك تكوينه بمدرسة المعلمين وسيلتحق بوظيفه وليس لوحده بل برفقة زوجة تسهر على خدمته وراحته ولعل المهم في المسالة انها زوجة لم تكلفه الكثير ولن تكلفه الكثير  ... 

لا اظنني في حاجة لاي استهلال او توضيح يبرا ذمتي من اية محاولة تشهير بالعائلة الكريمة وبنفسي بالقدر الذي يهمني ان اقف على الاشياء بالكثير من التمعن والتدقيق.. ان اضع وجودي وحياتي في سياقها الاجتماعي والثقافي الواقعي وليس المضي في تزيف الوقائع والضحك على الدقون تحث اي مسمى او اعتبارات.... انا لا اعقل الكثير من حكايات العائلة لسبب وحيد ووجيه هو كثرة تداخلها وتناقضاتها وشكل روايتها في كل ما من مرة مع انها رويت بحضوري او لي عشرات وعشرات المرات ودائما  كنت اكتشف انها تحتوي اشياء يصعب فهمها واشياء ناقصة واشياء غامضة.... 

لم يكن  مقدرا لي ان اتولى مهمة التاريخ لعائلتنا او لاسرتنا لانها اسندت باشكال عدة لاخي الاكبر الذي تولى عمادة كل العائلة والذي حاز على كل ما يوثق لتاريخها والذي بقي على اوثق الصلات بكل افرادها.. اما انا فلقد كنت ولطيلة حياتي احمق العائلة او دعني اجمل الحقيقة قليلا فانا كنت بوضع استثنائي ولم يسبق لاحد قبلي في كل العائلة ان كان نزيل مستشفى الامراض العقلية والعصبية وبكل ذلك التاريخ المرضي والوضع اللامستقر الا انا.... 

لا يمكن لاحد ان يخبرني كيف اعقل الحقائق ولا كيف تسمى الاشياء على الاقل الحقائق والاشياء خاصتي....ولا لي ان افهم الامور خارج سياقاتها الحقيقية والتي كنت اعشها واستوعبها انا الذي بقي بالبيت الا ان رحل كل ساكنته اما للمقابر او لبيوتاتهم واعشاشهم التي بنوها لانهم ملكوا ان يطيروا وتعلموا ان يحلقوا الا اياي....

السيد الوالد تخير عروسا تناسب مبتغياته وفي كل محطات الخلاف بينهما كانت والدتي مستوعبة لوضعها ولما يجعلها مرغمة على الصبر واجتراع مره..كانت تعي انها مقهورة بلا سند او ظهر يحميها من كامل استبداد وطغيان السيد الوالد..كانت تعرف انه اخدها وبما يفيد تزوجها وهي يتيمة الوالدين...وكانت تعي بانها بلا عز ولا املاك تضمن لها استقلاليتها وتتقوى بها في وجه الزمن الغادر...ولا اختها التي على ذمة رجل وابن ناس تملك لها الكثير لتحتمي في ظلها ولا اخ قادر على تمام اعالة نفسه ليعولها ان اضحت في مقام يستوجب ذلك....

السيد الوالد كان يضحك حد القهقهة عندما كانت تحاججه الوالدة بانها تملك نصف البيت الذي نسكنه وانها بتعبها وبما كانت تتدبره من خياطتها لملابس الناس ومعارفها دفعت كامل مستحقاته ولا احد من اخوتي كان يجرا على ان يقول عكس ما كانت تقول به الوالدة وحتى هي لعلها في قرارة نفسها كانت تعرف ان ذلك ليس صحيحا تماما او على الاقل لا تحوز على ما يثبت حقها فيما تدعيه..وانا الى جانب كل اخوتي ودونما ان نجمع ونصرح بذلك جهرا كنا نعرف الحقيقة التي تهمنا معرفتها والتي قد لا تفيد بانها كل الحقيقة...كنا نعرف ان والدتنا امية لم تتعلم القراءة ولا الكتابة في كل حياتها وكفى....

وانا بحكم تراتبية وضعي بين اخوتي وبحكم انني بلا ريش ولا تعلمت الطيران ومنذ ان نبت بينهم وانا في حكم الصغير بينهم لم اضطلع على اية اوراق او مستندات ولا اي شيء اخر كان في خزنة السيد الوالد بعد ان فتحها اخايا خالد وفؤاد ساعة وفاة الوالد ولا يهمني ان اعرف اليقين في شانها وحسبي انني اعرف جيدا من يكون السيد والدنا ولماذا من سابع المستحيلات ان يكون قد كتب لوالدتنا نصف البيت حقها الذي نعرفه نحن والاقربون منها...

والدي ما كان همه بامراة متعلمة تفهم عليه او تنازعه او تفتح رسائله وتضطلع على اوراقه وحساباته الخاصة...

والدي ما كان همه باصهار نافدين او متعلمين يقوا عليه امراته..

والدي ما كان في حاجة لدلع بنات وشابات تكلفه مهرا واقامة عرس قدر حاجته لامراة يضاجعها متى شاء ولا تكلفه الكثير غير لقمتها وما قد يجود عليها وان تجبرت اخضعها وكسر مقادفها وجعلها هي من تختار الرحيل وتخلي له البيت ولو لحين ان تعي وتستوعب بانه ربها الاعلى... 

والدي لم يحسن بوالدتنا حين اكترى لها بيتا لازيد من ثمانية عشرة سنة ولم يسكنها في خربة من خرب والده بالمدينة العتيقة بالعرائش وان ظل محافظا على ان يكسر لها راسها على الاقل كل صيف سنة باقدامنا جميعا لتمضية العطلة الصيفية بمنزل جدتنا.. نحن جميعنا كسبعة افراد لجانب عمين وعمتين وجدة وابن عمة وبنة عمة يحضرا ويغيبا... بنفس المنزل المكون من غرفتين وغرفة مطبخ حول استخدامها لتظل فقط غرفة صغيرة.... 

ووالدي بعد ان قدم اخاه عمي محمد استقالته من وظيفة التعليم وطلق زوجته بصبي واحد يحمل اسم لطفي كان بلا منازع سيد البيت وعميد عائلته وتجاوزا بحكم تعلمه ومنصبه الوظيفي كمعلم قدر كعميد لكل العائلة بما فيها عائلة والدتنا واصهاره هو..ازواج عماتنا وعائلتهم التي كانت كلها في الفقر سواسية وان كان يعرف كما الجميع يعرف بانه غير ذي ثقة ولا اهلا لعمادة العائلة وهو السكير العربيد والفوضوي...

عمي محمد كان لحدود بعيدة طيب المعشر وصموتا ولا يحب الفرعنة ومسايس لدرجة كبيرة وقانع بما ال اليه حاله ومكتفي بمرتبة في غرفة الرجال ينزل رجله عنها ليجلس عليها نهارا ويرفعها بعد الظهيرة ليقيلل عليها وفي الليل لينام عليها.. يدخن تبغا اسودا رخيصا ويشرب على حساب اخيه الاكبر وهو يعرف شرطه المسبق ان لا يفتح فمه او يعانده في امر وان يتبعه في كل ما يقوله ويريده... 

عمي بوغالب ابن سوق بكلا المفهومين ابن سوق سمك يعرف كيف يحول السمك لمكسب ولارباح ويعرف كيف يفرض نفسه على رجال الميناء والسوق وكيف يتدبر علاقاته وابن سوق سكير وفاسد الطباع وغير مراعي للحرمات وعنيف سباق للشجار وابن ليل يمضي كالكلب المسعور باحثا عن لذته ومتعه ولا يفرق معه اين ومع من يقضي وطره...لذلك فهو يعتبر نفسه خارج سوق الزواج وانشاء الاولاد...ويعتبر نفسه رجلا ورجلا للا يكون في حاجة كثيرة ليسايس او ان يقبل بان يفاوض 

عمي بوغالب من اولئك الذين يكدون ويجرون ويبحثون عن تكوين اسطورتهم الخاص بهم ومن اولئك الذين خلقوا لينقاد لهم الاخرين لا ان ينقادوا هم لاي كان....

عمي بوغالب صاحبه جيبه ودراهمه وسنده دراعه او مطية تحث حزام سرواله واينما ذهب فله قسط فهناك طاحين سمك يسوى موله بدوره وهناك لتر خمرة له فيه ثلثه وهناك سينة سمك مشوية له حصة فيها وخمر دفع فيه كذلك حصته...وبالسينما هناك خليلة بانتظاره او خليل طري وازن ولا يعرف عنه متى ينام ومتى يستيقظ ولا متى يدخل الدار ولا متى انسحب وخرج منها ولا الى اين.... 

عمي بوغالب معروف ومشهور في كل الاوساط وبين كل طبقات المجتمع وعطفه على بعض النسوة ابدا بلا مقابل.. عمي بوغالب ابن سوق... وليس كريما وان فعل ذلك فللاغرار بقاصر او قاصرة او بمطلقة او بشاذ بعد متخفي وغير مفضوح... 

وعمي بوغالب من من لم تكن تطقهم الوالدة ان يحلوا ببيتها ولماذا؟!  ابسبب او بدون سبب!!؟   كلا اكيد بانه تمت سبب وسبب وجيه.... 

مما تقول به الوالدة ف"طاسلة بومنينة مشي ديال الزواح غير ديال الليل والطاسة والمطايفة " والطاسلة تفيد العائلة لكن ليست اية عائلة محترمة...

وتردف الوالدة عن الوالد انه في غالب الاحيان يلعن حظه ورايه الذي ذهب به لاختيار الزواج وتكوين اسرة...

اي واحد منا نحن ابنائهما او اقاربنا يثنيان على سلوك الوالدة وعلى صبرها ولمها واحتضانها لابنائها ويجمع الجميع انه لولا صبرها على زوجها والمعارك التي خاضتها معه ومع عائلته لما لحق حتى اجورة من البيت الذي انشاه ولضيع كل ماله على الليل وما لولو....وتعود فتقول انها لولا الحرب التي خاضتها مع اخوته البنات ومع والدته نفسها كي يبعيدا اخويهما عن زوجها وعن اسرتها لما كان لاي واحد من ابناءها ان يدرس ويستكمل دراسته ويكون بسلوك حسن وانما لتشردوا جميعا وتبعوا حرفة والدهم واعمامهم وجدهم.على الاكثر اي ان يبيعوا السمك نهارا ويخسرون ربحه على بنات الليل والخمرة والشراب.... 

تعود فتقول الوالدة لولا ان اخاه محمد سبق بتقديم استقالته من وظيفه كمعلم وبقي كبيت الوقف لا له ما يقدمه او ما ياخره لما تنبه والدنا لضرورة ان يحافظ هو على وظيفه ويعطيها حقها ليضمن ان تعطيه حقه وسلطة ان يسود وان يحكم وان يتزعم بل وان يتفرعن.... 

من ما لم افهمه جيدا ولا استطعت شخصيا ان اهضهه في شخصية والدنا انه كان من حفظة القران  ومن ما لم استطع ان اكمل تصوره في ذهني هو كيف ان العائلة كانت تخرج الدبائح في موسم سيدي عبد القادر الجيلاني وتطعم الفقراء وهم كانوا ينامون في غالب لياليهم على جوف فارغة لا اقصد السكارى الذين يتقياون ما باحشائهم وانما جميع من في البيت بما فينا نحن الاطفال.... 

والذي يلزمني ان اقف عنده مليا هي تلك الشجاعة التي كانت تجعلهم بلا ادنى حشمة او حياء وبعد اي ليلة عربدة وسكر يقفون وسط حديقة "الفارونة" ديال الرحبة ديال الزرع يذخنون ويتابعون المارة وكان لا شيء عابهم او يعيبهم ويتحركون ليقفوا كذلك بمركز السوق المركزي ويتمشوا في وسط شارع الحسن الثاني ومحمد الخامس وكان لا علامة او شائبة على جبينهم..

لعلهم لم يكونوا منفصمين عن الواقع المجتمعي الذي يعيشون فيه والذي ما كان يعيب على الرجل ان يتمتع بحياته وان يسهر ويشرب حد ما يستطيعه وليعربد حتى لكن بشرط ان لا يتورط مع المخزن او العدالة مادام يفعل ذلك بما يكسبه من حر ماله ومادام يصبح عليه الصبح وهو بمنزله او خارجا ليزاول نشاطه او عمله...

لقد كان الشراب حل على من يملك ثمنه ويقدر على شربه بل وكان عنوان قدرة واستطاعة مادية ويميز بين من يملك ومن لا يملك ومن له ان يغنم من الحياة لذاتها ومن لا قدرة له على تحصيل الا نزير من متع الدنيا...

لقد كانت النسوة يقصدن السوق المركزي لاقتناء الخضر والاسماك واللحوم والمواد الغذائية بينما الرجال والشباب يتوجهون لاقتناء مشروبهم الخاص وكل وحسب امكاناته المادية اولا وذوقه في الشرب او ادمانه....وكانوا يتنافسون في ذلك وكل واحد يريد ان يعبر صراحة عن استطاعته هو كذلك في ان يشرب وبستمتع مادام يشتغل ويجني المال وانه ليس اقل قيمة من اولئك الذين يقضون جل اوقاتهم بالحانات ومطاعمها من كبار مسوؤلي الشركات العمومية والادارات ومالكي مراكب الصيد وكبار التجار واصحاب محلات وكراجات اصلاح السيارات الذين يجنون من المال الشيء الكثير...بالاضافة الى كل ناس السلطة والامنيين والدركيين..لقد ارتبط تعاطي الشراب بالوضع الاجتماعي الخاص لكل فرد من المجتمع وحتى انواعه ارتبطت بمستوى ذالك الوضع الاجتماعي... 

وارتبط الشراب والاقبال على اية متع اخرى بقيمة الرجولة والفحولة.. كان يكفي ان تكون ذكرا لتمارس كامل حريتك في الفساد او الشراب او السهر وكان معقول جدا ان يحدث التنافس بين كل شرائح المجتمع لتحصيل المتع تلك التي بها يتجسد قيمة اي رجل رجل في المجتمع  ..الرجل القادر على الكسب والقادر على التمتع والقادر على لم جماعة خاصة به او حلقته الخاصة التي يمارس عبرها تظاهره الاجتماعي بالكرم والاحساس بالبدخ ويمايز بها ذاته عن من يتملقه وينافقه ويداهنه ليشرب على حسابه الخاص وهو بدوره يستخدمه ويسخره ويستغله باحتقارية وامتهان للكرامة في لعبة من يسيطر ومن يملك من من يباع ويشترى ويستغل في اعمال حقيرة كاعمال الوساطة والقوادة والسخرة...

السيد الوالد كان ابن بيئته ووسطه الاجتماعي الذي قلب فيه المفاهيم والقيم والمثل سنوات من الاحتلال والتواجد الاسباني الاجنبي بالمدينة وبالمنطقة وبعدها سنوات اخرى من التعايش ممن ولدوا وكانوا لحدود ذلك الحين بعد مفضلين للاستمرار في العيش بالمدينة وبالمنطقة حتى بعد انتهاء الاحتلال الرسمي للمغرب واستعادة استقلاله...

السيد الوالد كان يعرف جيدا من يسود في هذه الفترات من تاريخ كل البلد لقد كانوا رجالات السلطة والامنيين وموظفوا الوزارارات الساميون ومديروا شركات الدولة وكبار الملاكين والاقطاعيين وكبار الموردين والمصدرين والتجار ومن يدور في فلكهم من برجوازية ناشئة ومن متنفدين لدوائرهم من جماعات الموظفين واعوان الخدمة وسماسرة وعموما من كل من كان يملك شيئاً من الثروة لجانب من كانوا يملكون شق الثروة الروحية كشرفاء الزويا والفقهاء والعلماء والمتعلمين عموما...وبالطبع كان السيد الوالد على صغر شانه كموظف للدولة يريد هو الاخر ان يعيش ليلته كليالي القائد والباشا ويريد ان يتملقه الاخرون وان يحس بنفسه يملك ويده العليا ولن يحلو له ذلك الا بعدما يكون قد اجتاز عتبة الوعي ورقاباته الاخلاقية والقانونية وليس من افضل وسيلة لاجتيازها من احتساء كؤوس شراب وخمرة وبعدها له ان يكون ما يشاء هارون الرشيد زمانه او ابن نواس عهده او فريد الاطرش لحظاته.... ولماذا يبالي وبما عساه يبالي وهو في رفقة اخ يحرصه ويحتمي به وينتبه له اذا ما طفح سكره وكان من شانه ان يخرجه صوابه وينافي سلوكه السلوك العام الاجتماعي.... 

الوالد يدبر حساباته المالية بالسنتيم الاحمر ويتدبر امر ان لا ياخد على غرة فيبدر او يستغل كرم اللحظة الفجائي فيفيق على خسارات فادحة... الوالد كان يتدبر ما سياخده معه بجيبه وهو صاح ولم يمس بعد الخمرة.. ويعرف جيدا ما سيشارك به جماعته وحلقته اما كدين على رقبة كل واحد منهم او تبرعا خالصا منه بل حتى في السجائر كان يعمل حساباته ولا يتساهل مع من يمد يده لعلبته دون اذن منه.... كان مقتصدا في نوع ما يشربه من خمرة ليضمن الكم وبالثمن الرخيص والمناسب لساعات جلسته وسهرته.. وليضمن ما سيشربه في الغد وبعده مع جماعاته وما سيعود ليشربه لوحده في الجلسات التي يكون من باب الاقتصاد عليه ان يمضيها لوحده وبحدود ثمالة معقولة تمكنه من ان يصحوا ليغتسل ويتهندم ويذهب لمزاولة وظيفه... 

كل هنا والوالد كان يمارس حريته واختياراته ويصرف من جيبه ومن مال مرتبه وما يستحصل عليه كاجرة كراء للمسكن السفلي لمنزلنا...كل هنا والسيد الوالد رجل مثل رجال زمانه وبيئته ومن حقه ان يعيش وان يغنم بوقته وشبابه وصحته...كل هنا والسيد الوالد غير غريب عن منطق الذكور الذي يحكم مجتمعه...فالوالدة تحث عصمته وهو من يصرف عليها وعلى ابناءها وهو من يدفع الفواتير وينفق عليها ولا احدا من شانه ان يحاسبه على ما يتعب هو في جنيه..ولا له ان يقول له بكيف يصرفه او ما يفعل به....ولا لاحد ان يساله ان كان عادلا في صرفه او نفقته ولا ان هو وفر لاسرته كفاياتهم وكل احتياجاتهم ولا كيف عمد لانجاز حسبته الخاصة بما يبقيه لنفسه مقابل ما يهبه لافراد اسرته...السيد الوالد الى ها هنا وممكن ان يقبل النقاش لكن لا مجال لمساءلته فيما يخصه هو لوحده ولا في كيفية معالجته لكل موضوعات وفصول نفقته على اسرته لان ذلك خط احمر والمصيبة ان الوالدة حتى وهي تعرف طبع زوجها وتعرف لاءاته فهي لا تملك ان تصمت او تغلق فمها ولذلك فهي تستحق ان ينكل بها هذا هو قانون الفرعون والرب الاعلى الذي يسير عليه سيدنا الوالد....هو اولا وقبل اي شيء واي اعتبار اخر..هو ومتطلباته الخاصة  وما يكفيه ويرضيه وما له حتى ان يجود به على جماعته والباقي خصه بدراسة ورزمة حسابات خاصة ودقيقة ليس من شان اي احد او ظرف ان يجعله مكرها على التغيير فيها فالتقدير له وحده والتمييز يخصه هو وحده والتقتير في هذا الباب او ذاك من احكامه وحكمته ومرفوض ان يساءل في منطقها او في كيف سوى تلك الحسابات....

الوالد هو الوالد هو رب الاسرة وهو الادرى بمصلحتها وبما يناسبها ومادام هو من يجني المال فهو حر في صرفه كما يشاء ويحلوا له ومن لم يعجبه الحال او الوضع ليشرب ماء البحر وفوق هذا وذاك سيسلط عليه العذاب المبين ويطرده من رحمته....

الوالد هو الوالد احسن شيء يكون من نصيبه واكبر حصة له والتطبيب الجيد خاصته هو لا لنا ومصروفه الخاص لا يناقش وفي الان الذي يملك فيه اي احد منا دخلا خاصا به ساعتها ليفعل به ما يشاءه هو الاخر... وهكذا ينتهي الكلام واي محاولة للملاججة سنتهي بما لا يحمد عقباه ولكي لا ينسى اي واحد منا فهو القانون واي قانون اخر يقف لجانبه ويسنده باعتباره الوالد وباعتباره رب الاسرة الذي يملك ان يرضي على من يشاء ويسخط من يشاء....  

لعلني لا اعرف او لا اريد ان اعرف كيف تكون الوالدية...كيف عساها تكون الابوة...!!؟..لكنني وبلا حاجة لأبرر نفسي لا ظنها بمثل ما يجسدها السيد الوالد وجيل من اشباه الوالد كان يغزو مجتمعنا ويسود...جيل متسلط واناني وانفصامي كان الاولى به ان يعيش لنفسه ولغرائزه لوحده دونما الحاجة ليفكر في اية مشاركة او مقاسمة للعيش مع اي كائن اخر ولا في ارتكاب اكبر زلة وهي السعي في انجاب ابناء واولاد....

كنت انظر اليه خصوصا في ساعة الاستيقاظ الاولى وقد اخذ حمامه وارتدى ثيابه وجلس لياخد فطوره ويتناول سجارته الاولى فاجده وكانه غريب عنا /عني...كانه شخص للتو دخل بيتنا وسيطر على كنبة في صالون الغرفة ولا يرغب حتى في النظر الينا وحتى اذا التقت انظار بعضنا بالبعض يرمقنا بجحود كامل وبكامل البرود والانكار كأنه لا يرغب في تواجدنا بالقرب منه وساعرف نفس تلك النظرات لاحقا لما كبرت اكثر في العمر وكان يلمحني بها ساعة اكون مقبلا على تناول طعامي حتى يحبس لي شهيتي ورغبتي في متابعته....

وحدي ساعرف اننا ابناءه من فعل اي شيء وكل شيء لنحافظ له على صورة الاب لنا اما هو فلربما ما كان له في يوم من الايام ان يدركها او يصنعها بداخلنا...اما ان يستحقها او ان لا يستحقها فكلنا حاولنا ان نبعد افكارنا عن ذلك المستوى من التقييم ربما تادبا منا وربما كي لا نساوي بين الظالم والمظلوم... 

لم نختار اسرنا ولا الوضع الذي يجب ان يكونوا عليه قبل انجابنا لكن هذا لا يعني بالضرورة تحث اية دريعة اخلاقية او مثالية انه وبشكل اوتماتيكي علينا ان نكون متوافقين معها ولا نسعى الا لنيل رضاها... 

للان لم اهضم رضى او سخط الوالدين على ابناءهم ولا كل تلك الرزمانة من الوصايا والتعاليم الدينية والشرعية والقانونية والاجتماعية التي تعطيهم ذلك الحق وحقوق اكثر تحكما ناسين او متناسين انهم في الاصل ليسوا متساون هم انفسهم كاباء وامهات في كامل المجتمع ولا من مرجع واحد او نبع واحد يعودون كلهم لتعمم احكامهم وتسري وتنفذ.. 

لا اعرف او لا اريد ان اعرف معنى وحال ان تعيش بلا اب.. يتيم الاب ولا اهتم ها هنا كثيرا بالسند المادي وانما بغياب تلك العاطفة المدعوة بالابوة تلك التي حاولنا كلنا وبكامل الاتفاق بيننا على ان نعري عنها ونحفر عنها ونصارع بكل قوانا لايجادها ونيل البعض منها ذاخل ذلك الانسان الغريب عنا والذي كان يمثل سيدنا الوالد... جاهدنا كي نلين من جمود طبعه وخشونته  تذاكين عليه كي نشعره بالفرق بين العطاء بالود والمحبة وبين العطاء بالمن والفوقية..وكنا مستعديين لنمضي مشوار الالف ميل معه لنجعله يتراجع ويتنازل قليلا عن الحكم بسلطان الاب الرجل الذكوري في مجتمع ذكوري متخلف...

لعلي لم اكن املك الكثير وانا بعد طفل لاقنعه بمدى حاجتي لاب يرعاني ويحن علي ويهتم بي لكن اخوتي كانوا مهتمين لحدود بليغة بايجاد سبل تعمل او تساعد على احادث تغيرات في نهجه وسلوكه المتخلف والاناني والسلطوي حتى وهم واعون ويقولون بالاكثر من امر في شان التعامل معه...فاخي خالد كان مع ضرورة ولزوم ان يسايس الجميع معه بما فيهم الاكثر تعرضا للضرر والاذى منه السيد والدتنا لكي نتجنب الصدام ولكي نتمكن من الانفلات والخروج عن دائرة تحكمه مع مضي الوقت ويعني مع التقدم في اعمارنا وهاهنا كان اخي خالد كما هو دائما برغماتيا ويفكر في نفسه اولا وقبل كل شيء..بينما سمير كان مع تجاهله تماما والاعتقاد في ان وجوده يتساوى مع غيابه ودعمه كما لا دعمه..ما توفر فبه وما لم يتوفر لا نقول به..ننسى اننا في حاجة له ونسد عليه الابواب المعتادة التي ينفد منها هو وجلجلته وصداعه وعراكاته....فؤاد لم يقل باي شيء لانه كان من من ينفد ولا يتحدث وحتى عندما اختار الثانوية الداخلية كان يعرف انه لن يكون بوضع خالد الذي توجه هو الاول للثانوية الداخلية ولن ينال ربع الدعم الذي كان يناله خالد ولا سيجد من سيدافع عنه مثلما كانت تفعل والدتنا مع اخي سمير في مواجهة السيد الوالد لمسالة جد بسيطة هو ان لا السيد الوالد ولا الوالدة ولا كل اخوتي يعرفون من يكون فؤاد...ولان فؤاد كان عن حق علبة سوداء متوهم كل من يدعي انه يعرف عنه ولو الشيء القليل...فؤاد ان حاول قول شيء بخصوص السيد والدنا فلقد قاله لي ومن تقدير انني انا وفي الغالب من سيحصل فيها وبتوجيه ان لا اجعله يستفرد بي وبذلك اضمن ان لا يجثث اي طموح عند اختى الصغرى بشرى....

بمجيئنا الى العرائش نهائيا للاقامة في صيف 1978 خرج اخي خالد هو الاول ليستكمل دراسته لمادة الفنون التشكيلية بثانوية ابن الهيثم التقنية بفاس وقضى بها ثلاثة سنوات وتوجه بعدها الى فرنسا ليتابع دراساته الجامعية... وخرج بعده اخي فؤاد لثانوية جابر بن حيان بتطوان ليستكمل دراسته في شعبة المحاسبة لثلاث سنوات  وبعدها التحق كتلميذ دركي بمراكش... الذي بقي معنا واطال بقاءه معنا لحين حصل على بكالورياه في شعبة الاداب مع ثعثر سنة في مستوى الثالثة اعدادي لزمه ان يكررها هو اخي سمير وبعدها التحق بفرنسا بنفس اكادمية الفنون التشكيلية بفلنسيان بفرنسا التي تخرج منها اخي خالد وبعمر السابعة عشرة خرجت اختى الصغرى متزوجة وقد انقطعت عن الدراسة في مستوى الثانية ثانوي (السادسة ثانوي). 1991...

في حدود عقد من الزمن كبر من كبر وخرج من البيت من خرج وعاد ولفترة قصيرة من عاد للمنزل وليخرج منه مجددا وليس كما المرة الاولى وكان هذه المرة ولربما للمرة الاولى مصدوما لانه لم يالف مثل تلك المعاملة من سيدنا الوالد لكنه داق منها مثلما دقنا وشبعنا نحن منها...وحتى عودة اختى الصغرى وزوجها لم تكن بطعم سيء وشكل قاس كتلك التي عاد بها اخي الاكبر خالد ولا دخلا لطبيعة عودته اكان مهزوما او منتصرا..اكانت اصلا ضرورية او غير ضرورية ولا حتى دواعي انهاءه لهجرته ورجوعه بابن وزوجة مفضلا الاقامة بالمغرب اختياره الحر او فيه املاء لارادة السيد الوالد بالقدر انها كانت في شريعة الوالد مرفوضة فمن خرج من العش عليه ان لا يعود للاقامة في العش وعلى حسابه الخاص...هذا هو كل ما في الامر....الوالد ما ان تنفس الصعداء وقد ازاح عن كاهله حمل من ياكون فيه ومنه حتى ان يعودوا ومعهم افواه جديدة...كلا هذا في نظره هو الاستعمار الذي حق فيه الجهاد والقتال لاخراجه.....

وبقيت انا...بقيت للان انا....اخرجني ذات زوال شرطة اقدمهم اخي خالد وصعد معهم لحيث غرف السطح حيث كبلوا معصمي واخرجوني للسيارة التي كانت بانتظاري...لم يكن اي احد ينتظرني في نهاية الدرج على ان اختي كانت هناك ووالدي ووالدتي وزوجة اخي خالد واول دخولي زولها لمحتهم يتناولون الغذاء ويتبادلون النكث والضحكات وهم يتدوقون العنب وقطع البطيخ الاصفر....لم يكن يملك السيد الوالد اي سند شرعي لاخراجي على تلك الطريقة لو لم يتدخل اخي خالد ويوفر له شهادة طبية شرعية بما تتجاوز فترة العجز فيها الواحد والعشرين يوما ليعطي الوكيل الامر بالقاء القبض علي..وهي الشهادة التي لا تقر بالحقيقة لكنها مشيئة سيدنا الوالد وخليفته على الارض لا يمكن الا ان يكون في مسعى سعي سيدنا الوالد....وعدت بعد اربعة اشهر من الاعتقال.....وعدت لكي لا اخرج حتى في جنازة السيد والدنا ولا في جنازة الوالدة التي لم يدركها اي واحد من اخوتي غيري...وها انا للان لا زلت بالعش ولا اعرف الطيران ولا املك جوانح 


الجمعة، 11 مارس 2022

يوميات : عوالمي السرية.../ قلة العفة...


 بعد ان نمر من هنالك وناخد الطريق لهنالك.. نتعلم ونحفظ الطريق ويسهل علينا تذكره ومع تكرار الذهاب والاياب عليه نستسهل السلوك اليه... وننسى الرحلة الاولى وعناء الرحلة الاولى... نملك الثقة في انفسنا وفي قدرتنا على عبوره في كل ما من مرة ننوي اخده وسلوكه... 

لم تهبني الحياة ما اردته وتمنيت عن حق الحصول عليه...لكنني عشتها بالشكل الذي اردته فسيان عندي ان تكون قد منعت عني ما طمحت فيه ورغبت فيه بكل قوة ما دمت حتى انا نفسي لا فوت فرصة ان اعيشها كما شئت انا لا كما ارادوا لي ان اعيشها..ولا كما اوهمتني هي انه بامكاني ان اختار وحيث لا يكون هناك من اختيار...

ضيعتني قدر ما استطعت لاجدني على الشكل الذي ابتغيته واردته ولا همني تقييم الاخرين ولا باليت بان اكون في حسن ظن الغير...

صعب علي في كل مراحل عمري الاندماج مع الاخرين خصوصا اولئك الاخرين النمطيين والنمودجين..ربما لم اكره في عمري كله امرا بقدر ان اخد الصف كما الاخرين وان اظل على انتظارهم كاي واحد منهم...كلا لم اكن ابدا كواحد من الاخرين ولا حبذت الفكرة ابدا مهما بدى لي قدر الضرائب التي يمكن ان ادفعها مقابل راي وموقفي هذا....

من ذلك العمر الحديث تعلمت ان اخد وقفتي ليس ببعيد عن الاخرين كما ليس بالقرب منهم...وتعلمت ان الزم يدي واضعها خلف ظهري وان استحظر مليا في راسي ان لا استعجل واستعمل يدي كما يفعل الاخرون وعوض ذلك ان استعمل نظراتي لتلجم اي يد تتسرع وتمتد تجاهي..ان افرض ارادتي دونما حاجة لان استعمل يدي..دونما ان اجر جرا لابدي عنفي...فكرت الاف المرات في سبل الدفاع عن نفسي ولا استسلمت لفكرة ان احرك يدي مثلما يفعلون...قبلت على نفسي ان اعالج بضربة خاطفة تدمي شفتي او انفي ولا قبلت ان اتورط في ردها بتلك الشاكلة ولا على ذلك النحو لا السريع ولا المتاني او المتاخر...كنت احمل محفظتي المبعثرة وانتبه لما اتسخ من ثيابي او تمزق دونما ان احاول مسحها او مداورته واعقل جيدا الحدث ومسببه..صاحبه وان امضي طريقي...حتى لغة الحسابات ما فضلتها بذلك الشكل النمطي الذي تمليه الرغبة في الانتقام ورد الصاع صاعين او انتظار لحظة التشفي....الحساب كان عندي لا يخص احدا غيري وليس فيه انا واخر...فيه فقط انا..كيف اخلص للااسامح وللااحقد ولاتعالى تماما..كيف ان لا اتاثر وان لا تنال مني في نفسيتي وتدفعني لاتغير في اتجاهات لا اريدها ولا اقبل بها...

فهمت حياتي ووجوي الاجتماعي على نحو خاص..كنت مستسهلا تماما فكرة ان اعيش وحسب...ان اقطع العمر او يقطعني بما اتفق وكيفما اتفق..

وتعلمت انا اتبدى على غير حقيقتي..ان اكون اي شيء يريدونه ويقدرونه هم من نظرهم لي ولحجمي وشكلي ولسلوكي على ان اصطدم معهم وانا احاول ابارز شخصيتي والدفاع عن وجهات نظري... 

تعلمت الصمت ودربت عيني على ان ترى جيدا ورؤيتها على ان تتسع وتحيط بكل شي يدور في حقلها وذاكرتي على ان تكون حاضرة تخزن وتسجل كل شيء... 

كنت التلميذ المرتبة ثيابه والمرتخية عضالته والغير حادة رؤيته كما ارادني السيد الوالد... وكنت التلميذ الغير مطلوب منه ان يقيم مجهودات خارقة ليتوفق بل فقط التلميذ اللاباس به الذي يحافظ على مستوى مقبول وينجح في حدود المعدل كما ارادني السيد الوالد  الذي لا يريد ان يكلف نفسه ووقته وجهده ليصنع مني المتفوق والمجتهد... 

كنت الطفل الذي يرضي والدتي.. الطفل الذي لا يثير المشاكل ولا الخناقات والذي لا يعود بثيابه متسخة ولا ياتي من يشكوها سوء تصرفه او سلوكه... 

والدي كنت خامس ابناءهم  والدور الذي رسموه لي كان دورا بسيطا وعاديا جدا ينسجم مع وضع اسرة لها عدد من الابناء وامكانتها محدودة وجد متواضعة... لم يحاولوا ان يغدوا في اي طموح كبير او يصنعوا من انايا انا راغبة وجادة في طلب تحقيق وجودها وذاتها بين الاقران... كانوا يريدون مني مجرد شخص عادي تكون له حياة عادية وبسيطة يانسهم في حياتهم ويظل لجانبهم بعد ان يرحل الكبار وتتزوج البنت الصغرى.... 

لا اريد ان اعالج رؤيتي هذه باجراء تحليل نفسي ولكنني دعني اقول ان هذه كانت اول صدمة في كل حياتي... لقد كان السيد الوالد يعرف جيدا ما يريده من ابنه الخامس وكان على اعتقاد ان تربيته ستكون جد سهلة وميسرة... وعلى ذلك المنوال تعامل معي اساسا اخي الاكبر خالد.. خليفة السيد والدنا في الارض.... ومن هاهنا بدا ونتج كل الخلاف والصدام بيني وبين اخي الاكبر وسلطة الاخ الاكبر.... 

لم اكن الغبي ولا السادج لينطلي علي تساهل وتسامح السيد الوالد مع اقبالي على الدروس وحتى الذهاب الى المدرسة ولطلما جربته وانا مفضوح في ادعاءاتي بالمرض لابطل الذهاب الى المدرسة  وكان يتقبلها بلا ادنى محاولات التعامل بصرامة او التمحيص في ادعاءاتي... 

السيد الوالد رجل تعليم متمرس وخبير له ان يعرف جيدا ويقيم مليا مستواي الدراسي واشكال تحصيلي للقواعد والمعارف الاساسية وبالتالي لو كان راغبا وجادا في ان يجعل مني تلميذا في المستوى المشرف لاوجد بدل الطريقة عدة طرق كان يدرس لي هو بنفسه او يلحقني بقسم للتقوية فيما ينقصني او يفوتني من استشاربه من دروس وقواعد...ولا كان يهزا حتى من محاولاتي اللجوء لاخوتي برغبة التحصيل الجيد والتفوق بالتالي:"اش غدي يقرى هذاك...."انا لم تكن عندي اية اعاقات ادراكية او حسية او معرفية تحول دون ان اتعلم واتلقى تعليمي بل وان اكون من المتفوقين...ليحكم علي بذاك الحكم:"اش غدي يقرى هذاك...."

حدث ان كنت اشكوا الوضع لوالدتي واضع نفسي مكان ابناء الجيران الذين لا يدخرون جهدا من اجل ان يحصل ابناءهم على تقديرات جيدة في دراستهم والذين يتكلفوا من جيوبهم الخاصة ليحصل ابناءهم على ساعة تقوية اضافية في عدد من المواد..بينما والدي لا يكلف نفسه حتى المراجعة معي ولا حتى تشجيعي على فعل ذلك...

في تلك المرحلة المبكرة حقيقة لم اكن املك تماما القدرة على حد النزيف...كنت ادرك ان اقبالي على التعلم دون المطلوب..كنت بما لا افهمه تماما لا استطيع ان احصر كامل انتباهي على العمليات التعلمية ويضيع مني تركيزي واجد جزئيات عديدة من الدرس تضيع مني ولا اتمكن من استعابها وفي المحصلة يبقى الدرس في مجمله بعيدا عن الاسترساخ في ذاكرتي...افهمه ولا افهمه كلية...ألم به في عموميته دون ان املك تذكره في كل تفاصيله ولا اعرف كيف اوصل البداية بالنهاية..لعلي ابدا يومي الدراسي بشعور بالتعب والوهن العقلي وباحساس بانني بلا رغبة في المتابعة ولا حتى في التحصيل او التواجد بالقسم الدراسي...ربما اعاني من تابعات ليلة لم انم فيها جيدا وتارقت فيها طويلا كما بكيت فيها بسبب واضح وبلا سبب وبذلك الكسل الذي يهم بي في اخر ساعات النوم وقرب الاستيقاظ مما يذهب عني امكان النهوض على احسن حال وفي تمام حالات نشاطي وتفتح ذهني.. ويبقى الضجر والملل سيد الموقف الذي يصاحبني طيلة الحصة الصباحية بالخصوص اما في حصة ما بعد الزوال الى اخر المساء فاكون مرهقا ومتبعا وغير قادر على تنشيط ملكات ذهني وقدراتي على التركيز...ويتعاظم عندي الاحساس بانني في العموم غير قادر ولا راغب في الدراسة ولا في شغل هذا المقعد الدراسي وبانني مجبور فقط على حمل حقيبتي والتوجه الى المدرسة كل يوم بلا ما يحفزني على المتابعة او ينمي في الرغبة على الاستمرار....البقاء في المنزل لم يكن كذلك ممتعا لكنه على الاقل يبعد عني ذلك التوقع المخيف والحاط من اعتبار الذات وانا ممكن في اي لحظة ان اتعرض للاهانة ولسوء التقدير من معلمي ومن زملائي بالفصل....

اضحت  المدرسة وبرنامجها حملا ثقيلا على قلبي وسببا كافيا ليدخلني في الثوتر والقلق ويستنفد مني طاقتي..ويعكر علي حياتي...تمنيت في مواجهة كل ذلك ان استيقظ يوما وقد قطعت كل صلاتي بحياة المدرسة والتمدرس لاتوجه لفعل اي شيء او لتعلم اي شيء اخر غير ان اكون مكرها على ما لم اعد اطقه...

مصيبتي انني كنت على وعي بان كل يوم دراسي يمر دون ان اقبل عليه بجد واستفيد منه كما ينبغي يضعني في ورطة ويزيد من تفاقم مشكلاتي التعلمية ويعرضني للفشل وينتهي بي للاحصل على العلامات المناسبة ابان الاختبارات والامتحانات....

ومصيبتي في نفسي انني كنت باشكال عدة اعي بان مشكلتي او مشاكلي ليست مع المدرسة بحد ذاتها ولا مع ما يدرس لنا وانما  من وضعيتنا الاسرية...من كل مشاكلنا التي نتخبط بها وعلى نحو مزمن....لقد كنت خائفا ومرعوبا ولا اتصور وجود اي حل يريحنا..يأمن استمرارا طبيعيا لاسرتنا ويجعلنا نكبر دون عقد او كوارث نفسية واجتماعية...عشت كل يوم بيومه من اوله الى اخره احمل امنية واحدة ان يمر وينتهي بسلام اما الغد فلا املك الا التوجس في شانه..شانه كشان كل ايامنا سواء كان الوالد محتس للشراب او غير متعاط له لانه على كلا الحالتين سيكون مزاجه متقلب ولا شيء مضمون بل كل شيء متوقع وفي اي لحظة قد تندلع الخناقات ويعلو صوت اللعان والسباب وقد يحدث التكسير والتحطيم الانتقائي لان السيد الوالد حتى في عز سكره ليس على استعداد ليمني نفسه بخسارات مادية فادحة وانما يعمد احداث الفوضى ونثر الاشياء او قلب مائدة ليس عليها الا بعد كؤوس وليس احداث تخريب عام سيكون عليه تعويض اضراره بعد لم الخناق وانتهاء المعركة لكنه بالمقابل كان على اتم استعداد ليمد يده ويضرب بها ويمسك بالوالدة ويمزق ثيابها ويدفع اي واحد من اخوتي يحاول التدخل وينكل به خصوصا وانه يعرف ان لا احد فيهم سيجرا على مبادلته اللكمات باللكمات ولا الركل بالركل ولا الضربات بالضربات.... كان يتعمد حالات الهيجان والزعاق ليستاسد ويحكم الموقف.. على انه في اتم استعداده ليحكم النتيجة لصالحه بمعالجة الموقف بطرد الوالدة واخراجها بالعنف والقوة من المنزل واغلاق بابه ولا يهم ما عساها ترتديه من ثياب ولا تاليا ما مزقه منه.... نحن الصغيرين كان يستغل سوء تموقعنا في مشهد العراك ما بين محاولة الدفاع عنا كي لا تصلنا ضربات طائشة وما بين محاولة الاحتماء بنا ليكيل ويوجه ضربات انتقائية ومحكمة التسديد للوالدة ولاي اخ يحاول التدخل... لم يكن في العادة محكوم بدرجة السكر الفادح عندما يعلنها معركة ويصر على ان تتطور وتندلع بل كان على العكس من ذلك يلزم حيطته عندما يكون في اسوء حالات السكر والتسمم بالكحول لانه يظل متذكرا لاخر معركة خاضها وهو على تلك الحالة وانتهت بتساقطه وتبهدل حالاته وبالاكتفاء بما يجعله في غاية الندم بعدها وهو السباب واللعان الفاحش والغير المراعي بالبثة... 

مرور تلك الليالي وقدوم صباحاتها ما كان يعني باي حال انتهاء المعركة وانما بداية شقها الكلامي ولغة التهديد والتعنيف والتحقير.. ويلزم اكثر من يومين لتهدا النبرة العالية والزعيق والصراخ وينفض الجيران عن التجمع في الحي لمتابعة تطوراتها والقيل والقول فيها.. لتستمر الحرب النفسية والمقاطعة وغياب الطعام المعتاد بغياب مصروف السوق والتسوق ولن تحط الحرب اوزارها حتى يتيقن من ان كل تهديدات الوالدة بترك المنزل او بتقديم شكوى ضده للشرطة او اللجوء للمحكمة ذهبت ادراج الرياح.. بل وليتيقن من ان لا احد من اخوتي الذين يستمر في استفزازهم لاستقراء ما ان كانوا فعلا  متحاملين  عليه وهل ذلك  يشكل تهديدا عليه  .. ليبدا في الاعداد للهدنة والتخفيف من كل اشكال التصعيد الذي يكون قد اعتمده وهو حريص خلال ايامه ان لا يتعاطى الخمر حتى لا يمسك عليه دليل ليس الا... 

نحن الصغيرين نقهر بالجو المسموم الذي يضج به البيت خلال اسبوع على اقل تقدير من ليلة الخناقة والمعركة وحتى خروجنا الى جانب البيت يفقد مداقه وطعمه ويصبح يضايقنا اكثر مما قد ينفس عنا لانه يكون علينا ككل مرة ان نواجه بما لا نعرفه نظرات الجيران وتهامسهم كما امكان ان تندلع خناقات كلامية بين الوالدة واحدى الجارات بسبب وجيه او بغيره والذي يكون فقط من تحسس زائد من والدتنا من نظرات الجيران وتهامسهم مع بعضهم على انه كان في احيان اخرى مقصود من بعضهم خصوصا بعد ان تكون الاوضاع بينهم قد ساءت وغدت عرضة للتاويل الجارح وللتفسير المشين... 

نحن الصغيرين  نقهر بتناول وضعنا من كل من ياتي المنزل من افراد العائلة بنية التدخل لاصلاح الحال بين والدينا... ونقهر بكم الدموع والنحيب الذي وحده ما تملكه الوالدة وتقدمه مع مضلوميتها لكل من ياتي المنزل او لكل من تقصدهم من معارفها وتصحبنا معها لبيوتهم... 

نحن الصغيرين  قد ناخد فطورنا الذي يعده الوالد في حالة ان كانت والدتنا قد تركت المنزل ونصحبه في الطريق الى مدرستنا ونحن نجاهد كي لا تتزعزع او تتبلبل نظراتنا لكل من يعرفنا او نعرف انه على علم بما حدث معنا وببيتنا وداخل اسرتنا.. 

نحن الصغيرين لم نعد نحاول ان نتصرف على اي نحو اخر غير انتظار ان تمر الايام وتحل الهدنة ويعود الوالد لاحتساء الخمرة ببعض الاعتدال ولوحده بالبيت قبل ان يعاود الخروج او استضافة اخوته ببيتنا ويبدا في تصيد الهفوات او الاخطاء البسيطة ليفجر مما شحن به ذاتيا او اجتماعيا لتندلع خناقة ومعركة جديدة وبلا توقيت لانها لم تكن بنمطية الماجورين والمياومين او صغار الموظفين التي يكون خلو البيت من ما ينفق سبب مباشر لاندلاع الخناق فيه.. معنا وببيتنا ابدا لم تكن الوضعية المادية السبب المباشر وان كانت من جملة الاسباب غير المباشرة والرئيسية لتلف الاعصاب ولتعكر الامزجة وبداية الشد والجدب نحو اندلاع المعارك من جديد.... 

هل كنت املك التطبيع مع الوضع...؟!  هل كنت املك التسليم بانه قدرنا وبانه قضاء من رب السماء...؟!  هل كنت املك ان  اتعايش مع كل جو التوثرات والفضائح والتصرف بلا مبالات كما كان يحاول الوالد التصرف به وكان لا شيء شائن وقع منه ويعقله الحيران والناس عليه...؟!  هل كنت املك ان احصر انتباهي بعيدا عن التفكير في مصيرنا يوم تندلع معركة تحطم نهائيا استقرارنا المزعوم...!!؟

انسنا على كل ما كان يقع ويحدث ان نعيش على اعصابنا..ان نتكيف على نحو مرضي مع ما كان هو واقعنا وواقع حال اسرتنا...لا نكاد نتوهم ان فترة الهدنة قد طالت وتجاوزت الشهر لنضع جانبا بعض قلقنا حتى يحدث الخرق الفادح وداىما بنفس الاسباب وبذات الحجج او بدونها وبلا سبب يذكر وقد تبتدا بمثل هذا الاستهلال:"وش توحشتي المدابزة والمناكرة....؟!"وتندلع الخناقة التمهيدية ماقبل الظهيرة او في اول الصباح لتسخن بالتدريج مع كل كاس سيحتسيها السيد الوالد وهو يغدي في نفسه الاستعداء وينوي جعلها معركة تكسير انوف وانفة وبعثرة كرامة وتذكير جميع من في البيت بانه سيده وربه الاعلى ودونه لانملك الا الشارع والجوع....

تعبنا كلنا من نفس مواويله وقلة حياءه وعفته...تعبنا من تذكرينا جميعا بالهوان الذي ينتظرنا ان قرر ان يحسم امرنا ويضع يده عنا...وتعبت من وضع الفرضيات انا وتصور ان اللحظة حانت ووجب علي ان اختار مع من يمكن ان امضي او ابقى...تعبت لدرجة تمنيت فيها عن حق ان يحدث الانفصال وان ننتهي لوضع التشرد الذي يهددنا به جميعنا دون ان ابقى اتحسبه في كل لحظة...وتمنيت صادقا لو عدمت الوجود نهائيا داخل هذه الاسرة..وتمنيت بحق لو اسعف ذات ليلة بان انام ولا استفيق نهائيا....

تعبت من النظر اليه وهو يقف لحانب معلمي مدرستنا يتجادب الحديث ويضحك ويبتسم بتادب ولطف وانا اخاطره بذهني واساله لماذا يفعل بنا كل ذلك واساله بلسان والدتنا او ليس حرام ما تفعله بنا...!!؟...

تمنيت لو يتعب وينتهي ليكف عن سلوكه الشائن معنا ويتبدل..يتغير لنفخر به كاب لنا يستحق منا الاحترام والتقدير ونسعى نحن لننال رضاه...تمنيت لو يلتفت في يوم وينظر باتجاهي وانا انظر اليه من مكاني ويكون قد سمع مني خواطري وتمنياتي ويستجيب لها....


الأربعاء، 9 مارس 2022

يوميات : عوالمي السرية.../ صناعة القدر...(تابع 1-2: اخي فؤاد ).


 كلما اعتقدت انني قلت كل شيء او انني عدت بذاكرتي الى حقيقة ما كنت عليه اجدني كانني لم اقل بعد اي شيء ولا جرات اساسا على اتمام البوح الذي كنت ااسس له واحاول الخوض فيه.... كانني اخشى على نفسي من ان لا اقول او اتحدث الا بما قد لا يعتبر شيئاً يستحق حتى ان يذكر فكيف اكلف نفسي عناء البحث وترتيب الكلمات في شانه.. او لعلي اخشى التسطيح وانا انحو الغوص بعيدا في اعماقي... او لربما بعد علي ان ادور والف واناور حتى يتاتى لي سبر ما يمنعني من الوصول الى ذلك العمق والمستوى من عرض وحكي ما يكون بعضا من حقيقتي... 

ما كنته لا يمت بصلة لما تبدى مني وعرف عني او تراه يحكى عني من من يعتقدوا انهم عايشوني...ما كنته وان قد ينكر علي اعرف انه حقيقتي وهو الذي اوجدني على هذه الشاكلة او لعله هو ما مد لي في عمري للان بعد كل المحاولات الجادة والغير جادة للرحيل وللانتحار...

ما كنته قد لا يعني اي احد سواي لذلك منذ البداية اقصيت من ذهني قارئا بعينه اوجه له كلماتي...

وما كنته يتعبني الامساك به..ويستعصي علي النفاد اليه لخوف من انقل ما اراه الان ومن موقعي الحاضر وليس ما كنت انا فعلا عليه اعيش فيه وافكر فيه....

الحقيقة غير ما قد اخلص اليه بعد ان يمضي بي الوقت وتتبدل مواقع نظري واحساساتي...والحقيقة غير ما قد احملها كلمات نصوصي مهما حاولت تجاوز اشكال الرقابات...

الحقيقة بسيطة لا تحتمل الكثير من التاويلات...الحقيقة كأن اقول انني قد اخفي اكثر مما قد اعترف به.. وانني اتحفظ واراعي اكثر مما قد اتوخى الصدق كاملا.... والحقيقة انني بعد احاول ان اتدرب على قول البعض منها.... 

عندما ادعي الصدق اتحدى مخاطبي ان يسالني ما يشاء لانني على استعداد لان اجيبه بكل صدق  وبيني وبين نفسي قد اقول كل الصدق وليس منتهى الصدق لانك قد تحاكمني ولانك قد تسخر مني ولانك قد تمسكها علي زلة تساومني عليها في يوم من الايام... 

عندما كان يلزمني ان اعبر عن ما يقلقني ويفزعني ويتعبني وعن ما اوصلني لحالتي التي اكون عليها منهارا عصبيا او مكتئبا وغير راغب في الحياة افقد الجراة على التعبير... لا املك شجاعة البوح... واكون خائفا بالاساس بان لا اقدر جيدا وان يهزا مني وافضل ان اصمت وان لا اقول بالمرة اي شيء... "ما الفائدة من ان يذكر  لي تصريح ما لا يفيد ايا من حقيقتي وحقيقة ما يشكل وضعي...!!؟".. 

تمنيت بجد وبرغبة خالصة في مواقف عدة من ان اتغلب على مخاوفي وان اعبر صراحة عن ما كان يعتمل بالفعل داخلي ساعة ذلك الحدث او تلك اللحظة العصية... كنت اتوق لان اتمكن من التحرر والتخلص مما بقيت متكتما في شانه... لعلي كنت ساتحصل على اكبر قدر من الراحة لو تمكنت وبكل بساطة من تلفض الحقيقة كما كنت اعشها واتعدب داخلها او بها... لكن لم اكن اسعف في تمام قولها وباللغة الواضحة التي لا تتطلب الكثير من التاويل او فك شفراتها... 

تمنيت لو ملكت ناصية التعبير وجراته لاسمي الاشياء باسماءها كما كنت ادعي انني افعل لكنني كنت اعود دوما لنفسي واقول:" احدر ان تتصرف بغباء وتفضح نفسك...  ".. 

حقيقتي الاجتماعية بامكان اي كان ان يلوكها بين شفتيه وفيهه..وبامكان السجلات الاجتماعية والرسمية ان تعقل عناوينا منها..لكنها بلا ادعاء قد لا تمت الي بصلة....وحتى انا بدوري يمكنني ان اقول واقول وان ادعي في شان ما يمكن ان تكونه حقيقتي لكنني شبه متيقن انني ساكون مفضوحا ومزيفا بلا خبرة وابلها كبيرا....

كنت ذلك الطفل الغر الذي بعد يتعلم وينقصه الشيء الكثير.. كنت مدلل اسرتي وعائلتنا في حدود امكاناتهما واوضاعهما... ثم لعله في لحظة توقفت على ان ابقى مجرد ذلك الطفل الصغير السادج الذي تنطلي عليه الحيل والالعيب.. على انني بقيت بنفس الحجم الصغير وبنفس عمر الاطفال ولربما بقدر كبير من نفس سداجتهم... اخي فؤاد عبر بي بسرعة البرق لاكبر وفي غفلة عن الجميع.. فتح كل حواسي لانظر مليا ولاسمع جيدا ولاعقل مليحا... واستحليت لعبة استغماية التي كنا نلعبها سوية على الجميع.. كان ينبغي ان اتقن التظاهر.. وكان يلزمني ان ادعي الضعف.. وكان يتحثم علي ان اكذب كما يكذب الكبار... كان علي ان احتفظ قدر ما اشاء بطفوليتي وان لا احاول ان اكبر على الاقل في نظر الاخرين لان لا فائدة ترتجى من ان اكبر قبل الاوان خصوصا في محيطنا والوسط الذي نعيش فيه.... 

كان يعوزنا الشيء الكثير..تنقصنا الالعاب والدرجات الهوائية والكرات والمجلات الملونة والصور والتذكارات والقطع النقدية لشراء ابسط الاشياء او لاقالة مركب لشاطى البحر او لشراء تذكرة سينما..كان ينقصنا الطعام الجيد والوفير والملابس الحسنة والدواء وغرف مستقلة واسرة وملايات وبطانيات صوفية وكان يعوزنا بإزمان شديد الاحذية..الاحذية والصنادل الكافية والمناسبة... وينقصنا الماء الساخن للاستحمام كلما رغبنا في ذلك وينقصنا معجون الاسنان والصابون المرطب واشياء كثيرة... 

وكان ينقصنا من بحق يبالي بنا وباحتياجتنا.. كنا نفتقد عن حق لمن يرعانا... كاذب من يدعي انه كان في مجتمعنا الصغير من تهمه تربيتنا او تخلقنا... كنا نعي مليا اننا نعيش بين ذئاب وضباع جائعة وان الخرفان مصيرها الالتهام... 

اول ما وصلنا لبيتنا الجديد بالعرائش كان قد عبر بي اخي فؤاد واصبحت اكبر من سنين عمري الخمسة..اكبر بكثير لابدا باستعاب كل ما يقع ويحصل والتكهن حتى بما سيحصل ويقع...

واول ما وصلنا ووضعنا متاعنا ورحلينا لننام ليليتها كيفما اتفق واصبح صباح اليوم الاول لنا ببيتنا الحديث الانشاء حتى حدثت المقدمات ذاتها التي قال بها اخي فؤاد والتي بدت لي عادية وطبيعية واعقبها ما قال ذاته به اخي فؤاد الى ان وصلنا الى مربط الفرس حيث اشتد الخلاف وخرجت والدتنا غاضبة او شبه مطرودة من البيت الذي استعمره عماي وصهريهما... وكان علي ان ابدا في تكوين فهمي للامور والوصول الى صياغة الاستنتاجات الصحيحة ولكي ابدا في ذلك كان علي ان افتح عيني جيدا وان اسمع جيدا لكن ليس كل شيء يقال... وانما ان اعرف لما علي ان اسمعه جيدا واعقله مليا كي لا يمرر علي مرات ومرات ويوقعني في الغلط المتعمد.. 

السيد الوالد..كبير اسرته وعائلته لعبها بجد كبير وعميد العائلة ونسي نفسه واسرته الصغيرة وحساباته واطمأن لحاله وهو الان سيد بيته ومالك السفلي الذي يذر عليه دخلا كسومة كراء فلماذا لا يسكر ويبدا سكراته من قبل ظهر اليوم وحتى وان تركت الوالدة البيت وحملت معها اختي الصغيرة فلا مشكلة في من سيطهو ويتكفل بالطبخ فعمنا بوغالب اشهر من يعد طواجين السمك وعمي محمد اشهر من يعد اطباق "البايلا"..ثم ما حاجتنا للعشاء وهناك معلبات السمك وقارورات مشروب الكولا التي لا يقاوم لذتها صغار مثلنا...ومن يعد نفسه كبيرا ليتدبر ما ياكله بنفسه..وهكذا حسم الامر....حتى خرمت ميزانية السيد الوالد وكثرة الخناقات مع الجيران مع ابناء الجيران المدفوعون من اهاليهم لمواجهة عربدة الوافدين الجدد فبدا السيد الوالد في محاولات احتواء الامر بعجالة وانهاء امور تشطيب وصباغة المنزل ودفع اخوته النساء لمصالحته مع ام ابناءه وزوجته السيدة والدتنا... كنا على ابواب الدخول المدرسي بايام معدودات وبعد لا شيء وضع او رتب في مكانه ولا ذات العشاء" الملكي" الذي انهك معدتنا اضحى هو نفسه بل شمر السيد الوالد على ذراعيه ويده واخد يطهوا لنا المعجنات والبيض بالطماطم وطرطة البطاطا بالبيض... واختفت زجاجة المرطبات وابتدات لكنة المحاسبة على كل شيء على الاضاءة الزائدة وعلى نظرات اللارضى عن الطعام وعن لا احقية طلب مصروف اضافي من الجميع بما فيهم اخونا الاكبر خالد... 

" فؤاد " كان يعرف ان كل هذا سيحدث وحدثني عنه بكل تفاصيله ونحن بعد نقل الشاحنة التي كانت تقلنا ومتاعنا من مسقط راسنا القنيطرة الى العرائش.... 

كانت حجته او حكمته بسيطة جدا تقول بان الاشياء تتكرر وان هناك اشياء ثابتة كالطباع تتحكم في تكرارها وان ليس على نفس المنوال دائما ولكن تقريبيا هي ما ستعيد نفسها وان العزم كله على العقل..على قوة الملاحظة وذاكرة تخزيننا للمعطيات ولتفاصيل الاحداث... ودائما عندما تحدث تقريبيا نفس المقدمات ستنتهي في الغالب على نفس المنوال او النسق.. 

كان علي ان ابدا اساسا في التنبه وان لا اتعب عقلي وفكري بالمتغيرات وانما ان اخزنها واتركها حتى تتفاعل وتنتج حدثا ما وهذا هو ااذي علي مراقبة حدوثه او اعادة حدوثه وظروف حدوثه في كل مرة لاخلص لاستنتاج نمطه.... 

كان اخي فؤاد  سلس وواضح جدا ودقيق في كلماته معي ويتحدث وهذا هو الاساس عن قناعة وبكامل الثقة فيما يقوله ليجعل من التواصل معي امرا بسيطا وقادرا على ان يرسخ في ذاكرتي... 

وفي يوم سالته ان كان كل الاخوة الاكبر من الاصغر منهم يتصرفون على نفس منواله معي.. فعالجني بان اعيد احالة السؤال على نفسي انا بالذات وان اضع الفرضية واتخير النمادج التي ساتابعها وسارقبها كي اتاكد ان كانوا يفعلون نفس ذلك مع اخوتهم او لا يفعلونه... ثم طلب مني بالمقابل ان اسجل ذهنيا في حالة العكس ما يفعلونه هم مع اخوتهم الاصغر منهم.... 

كنت املك ان اتابعه وبعقل متفتح واعقل عنه كل كلمة يقولها وكل شرح لمفردة جديدة يستخدمها معي لاول مرة..اتابعه وانا اتمعن جيدا فيه واصغى اليه بكل ملكاتي العقلية والحسية كما طلب مني ولم يكن يتعب ذهني او يصيبني بالتشوش او الملل والضجر البقاء لجانبه اطول الاوقات...

ولعلي سجلت العجب من متابعتي اللصيقة لاخوتي الكبار..اخي خالد الكبير واخي سمير الذي يعقبه في العمر اذ كان تقريبا العكس هو الحاصل بينهما ان تتشابك خيوط صيد السمك بقصبة اخي خالد العصبي والذي يبدا في السب واللعان ينتهى بكل هدوء وكياسة اخي سمير بحلها واعادة جمعها وعندما يحاول اخي خالد ربط صنارة جديدة بها يتوثر ويحتار في حجم اي سنارة سيستعمل ويتقدم منه اخي سمير وبنفس البساطة يتخير المناسبة لنوع السمك الذي يتواجد بمنطقة صيدهما وبطريقة سلسلة ومتقنة ينهى الامر وبكل يسر..... اخي خالد يعقد الامور واخي سمير يبسطها ويحلها بسرعة.. اخي خالد تكبر عليه الامور اخي سمير ينزلها الواحدة  تلو الاخرى حتى تتراص على مستوى واحد ويسهل الخروج بامر منها وحلها ان كانت تتطلب حلا... اخي خالد يصعب سيناريوهات مشكلاته التي يواجهها واخي سمير باستعمال ورقة وقائمة  يضع خطاطة مبسطة وواضحة لمحتويات المشكل ونسبة مأوية لامكان حله من عدمها ثم ينتهي بعرض ما اقرب الحلول الممكن بها معالجة المشكلات تلك باكبر قدر من ضمان نجاحها... اخي خالد يبدر مصروفه بسرعة ويحتاج للسجائر ولربما لثمن مشروب قهوة وسمير يقرضه من مصروفه الخاص الذي هو الاقل مما يعطى لاخي خالد... ببساطة كان سمير الاصغر هو المنقد والموجه للاكبر...

النمط الذي خلصت اليه ان اخي الاكبر ينظر للاشياء من موقع الاكبر ويفكر على نحو اعقد /اكبر ويريد الاشياء الاكبر ولا يملك الصبر مع الامور الاصغر... واخي سمير يعرف عن جد مشكلة اخي الذي ادخل في راسه انه الاكبر وان عليه ان يضل الاكبر.... 

وراقبت علاقة اخي سمير الاكبر مع اخي فؤلد الاصغر منه فوجدتها لغوية بالاساس وتعتمد الذكاء والاقتصاد في الكلام وقلما يجتمعا سوية لانجاز شيء مشترك بل كل واحد يبدوا مستقلا بنفسه والاهم انه بينما وقار عحيب وكامل الاحترام وحب عجيب انظره في عيني كلاهما عندما يلتقيا في شاطى البحر او يصعد اخي فؤاد لغرفة سطح سمير وخالد.. كان يتبادلا اوراق او وثائق او قصاصات صحف او صور فوتغرافية ويتواعدا على ان ياتيه بها بمجرد اتمام انجازها وساعتها سيكون بينهما الكلام... 

وعدت وراقبت علاقتي باخي الاكبر خالد الذي كان يفرح بمجرد رؤيتي ويبدا في ترتيب امر.. سخرة بالاساس لصالحه او طلب ان اساعده في مسك قطعة الخشب تلك ليقطعها هو او غسل اناء فرشات صباغته وملئه بماء نضيف جديد... او النزول للمطبخ لاعداد كاس ماء بالنعنان له.. او الجلوس وترتيب كل اوراقه وقطع كرطون الرسم حسب حجمها ووضعها في ملفات كبيرة... او يطلب مني ان انزل واتجسس على حالة السيد الوالد واقيس مزاجيته وان اتيه بالخبر اليقين... 

وانتهيت لاكتشف النمط انه لا يحتاجني الا ليسخرني لاغراضه انه لا يعاملني الا كتابع له.. انه لحدود بعيدة يستغفلني بالكلمات الطيبة والتشحيعية لاغير... 

وتابعت علاقة اخي خالد باخي فؤاد فوجدتها فاترة وباردة ومن جهة اخي الاكبر بالاساس  حتى انهما يتحاشيا الاجتماع في مكان واحد مما فهمت عنه ان العلاقة بينهما ليست على مايرام وانتهيت الى ان اجد النمط بينهما هو انهما لا يتقبلان ولا يتنسبان وان النمط شاذ بينهما ولا تفاعلا ايجابيا فيه...

فهمت ما فهمته ولكن بدى يعوزني ان اعود لاخي فؤاد ليشرح لي عددا من النقط التي خزنتها في ذهني ودون ان اخرج منها باستنتاجات.. فوجدته يحدثني عن التفاعلات الاجتماعية وعن تعدد انماط العلاقات الاجتماعية وعن التفوتات الاجتماعية وكل هذه الكلمات والعبارات كانت جديدة علي وكان يلزمني ان اتابع شرحه لي الواحدة تلو الاخرى..... 

وعدت لافهم بان علاقتي باخي فؤاد علاقة استثنائية وغنية بالخبرات وعلاقة صادقة فيه الكثير من الود والمحبة والتناغم.. 

كان يمضي بعيدا عني ويتركني لما زودني به لابحثه مع نفسي ولازيد التحري بشانه ولما لا ان احاول التطوير فيه.... 

بالقرب من اخي فؤاد كان الوقت ثمينا ويسعنا لنعوض فيه كل ما يعوزنا ونحتاجه بحيث كنا نتدبر امورنا بابسط الحلول كان نشد جوعنا بمجرد قطع خبز مدهونة بالزبدة ونتخيلها احلى طرطة كريمة وفواكه وبعد ان نضحك ونمرح لافكاره المجنونة يعود بي لدروس الحكمة ويحدثني عن ضرورات ان نعقلن رغباتنا وان نتصرف بالعقل.. او لم يكن ينقصنا غير ما نسد به جوعنا وكذلك فعلناه فلماذا نغبن انفسنا بالحسرة على ما لم ننله وهو في كل الاحوال ما كان الا سيسد نفس الحاجة الاساسية التي نفتقدها.. وهي جوعنا.... وبمنطقه هذا كنا ناخد الطريق راجلين ونقطع ثماني كليموترات او اكثر لنصل لشاطئ راس الرمل ونلحق لبعض الوقت باصحابه ونستمتع برفقتهم ثم نغير مكان استجمامنا الى شاطى نهري ونستمتع سوية بالمكان وباكتشافه وندرس تياراته ونوع تربته ومخاطر السباحة فيه ونعود لشطه ونجمع المحار الجيد الذي سنطهوا به طبق "البايلا" على طريقتنا وطريقتنا هي بكل ما توفر وحاولنا توفيره... ومن جديد نغير مكاننا ونقصد الرصيف حيث يجتمع صيادوا القصبة وننزل الصخور لنبحث عن اخطبوط نافق حديثا او ممكن اصطياده بحيلة الحبل والاناء البلاستيكي وحتى ان لم ننجح فلقد نتدبر بعض حبات القمرون الكبيرة.. وفي اخر المساء وبعدما يكون الجزر في اوسع انسحابه يلف ما نحمله وثيابنا البسيطة ويطلب من صاحب له في طريقه الى اقالة قارب ان يوصلها لنا الى بر المدينة حيث سيجدنا نحن بانتظاره.. ويتقدم بي مشجعا اياي على عدم التردد او التخوف انها بضع امتار سنقطعها وسيساعدنا التيار الذي اعد حسابات سرعته وهذه الاخيرة هي من حدد انطلاقا منها نقطة انطلاقنا... كان يمضي سابحا بالقرب مني وهو لا يطلب مني الا ان احافظ على بقاءى طافيا فوق الماء والسباحة بلطف... ولحظة قرب وصولنا للصخور يسبقني ليهيا لي المخرج الامن بلا خدوش او ارتطام مع صخرة او وضع قدم فوق قنفد شوك.... نجلس الرصيف وهو يضحك لضحكي ويفرح لفرحتي ويقول لي: "والان... اصدقت انك كبرت وقطعت البحر..."

ناخد ثيبانا ومتاعنا والحق به الى عربات حلويات الشباكية اللذيذة ثم نختمها بكاسين باردين من ليمونادة الليمون ثم. نتحرك في اتجاه مخازن جمع السمك وتلك التي تشتري الاخطبوط من جامعيه ونجلس هاهناك وقد اشعل سجارة اشترها بالتقسيط وكان يذخنها وهو يضحك مني ويقول لي "لا ليس هنا.. لا ليس الان... ربما بعد هذه... نعم بعدها يمكن ان اجعلك تجربها...." كان يدخنها باستمتاع ودون خحل من الكبار والاخرين... ولما اقترب صبية صغار من المخزن لاحظت انه يراقبهم وعند خروجهم نهظ اليهم واخد يتحدث اليهم قائلا لهم ان ما معهم من الحجم الصغير الذي رفض الشاري اخده ثم سالهم هل يبعوه بدرهمين وبسرعة قبلوا بالصفقة وانهينها وبذلك انهينا ما كان بحوزتنا من نقود تدبرناها بنية اقالة مراكب العبور لشاطى راس الرمل الذي كنا فيه واستمتعنا ايما استمتاع به ودون ان نحتاح لخسارة نقودنا على رحلة العبور... الان كان علينا ان نسرع بعد ان عوضنا الطاقة التي خسرنها بما اكلناه من سكريات سريعة الاحتراق لنلحق بالبيت حيث ينتظرنا غذائنا  ولقد عملنا على اخد حمام بارد اول ما وصلنا ثم جلسنا لنستمتع بغذائنا وبعد وبسرعة نظف الاخطبوط وهيأ المحار والقمرون في اناء ووضع الكل جانبا على طاولة المطبخ الحجرية ودخل الحمام ليرتب شعره ويستعد للخروج وبطبيعة الحال كان يراقب انني اراقبه وكان يعرف ما يدور بخلدي لكنني انا من لم يكن يعرف ما يدور في راسه.. يتحرك الوالد من غرفة جلوسه لحيث المطبخ ويطلق ضحكة رنانة لما راى ما جلبه اخي فؤاد وعلق قائلاً له: "دبرتي البايلا العفريت.. ومعندي ما نسلك.." رد اخي بضحكات متقطعة.. ونهرني طالبا مني ان اسرع في اعداد نفسي للخروج وهنا فطن الوالد لنفسه وتحرك باتجاه غرفته ولخزانة ملابسه وفتح درجا خاصا واخد منه قطع نقود ووضعها كلها في يد اخي فؤاد  طالبا منه ان نتقاسمها معا... وهكذا انطلقنا لنكمل امسيتنا.... وهو يحدثني عن معادلة رابح رابح...

علمني لغة الكلام..علمني ان اختار الشكل والطريقة التي اعيش بها..وعلمني الفهم....

لعل اخي فؤاد كان من اول من حسب انه سيكون علي في مرحلة ما ان اظل وحدي وان امضي وحدي وان اعيش وحدي...واول من شعر بفداحة ذلك الموقف الذي ساقع تحث ظله او عنف شمسه وضوءه الحارق...ولعله فعل الكثير ليجهزني لذلك...كان يعرف ان جميع اخوتي بما فيهم هو يكبرون ويتخطونني بمسافات وساعة سيتركون البيت وفي كل الاحوال ساظل وحدي ولا حاجة لاقول بانني ساكون باصحاب واصدقاء...

اخي فؤاد كان يعرف انني اخترت ان استقل بنفسي وان اعيش وحدتي عميقا مثلما داب هو وتاثرت انا بمسلكه ذالك...


يوميات : عوالمي السرية.../ بعض من الحقيقة..


 كل صيف ينتهي افيق على خوف اكبر ويشتد توثري وتبدا الامراض الغير المعروفة الاسباب تصيبني... كل صيف ينصرم تحدث البلبلة بمشاعري واتوجس من كل شيء... الان لم نعد نقفل عائدين الى منزلنا بمدينة القنيطرة بتنا نقطن هاهنا ببيتنا الجديد بالعرائش.. لكننا مع ذلك نكون كمن نبدا رحلة عودة الى ديارنا... الى حياة اربعة جدران داخل بيتنا.. والى ترتيبات جديدة ومسلسل من اعادة التكيف والانتظام مع البرامج الجديدة للدراسة.. للتناول الطعام.. للاستيقاظ.. للنوم... لمشاهدة برامج التلفاز.. للخروج للزقاق وللقاء الاصدقاء... وللتقشف مادامنا كلنا في حاجة للادوات والكتب المدرسية وللباس يليق بالدخول المدرسي ولواجبات التسجيل المدرسي... 

كل فصل صيف ينصرم اكتشف كم كبرنا..كم كبر اخوتي وكم اضحوا مستقلين بانفسهم وبحياتهم وباصحابهم وبخرجاتهم من وجوه من يصاحبوهم ويزاملوهم دراستهم ومن ما باتوا يرتدونه من ثياب 

كل فصل صيف ينتهي يثير انتباهي شكل السيد الوالد الغادي في التبدل واقيس كم نحل خلاله وكم فسدت طباعه او على الاقل مزاجه..وكم ثخنت الوالدة التي كانت مجبورة على البقاء اغلب ايامه بالبيت 

بعد انتهاء كل موسم صيف ابدا في انزال الدموع التي حبستها في اغلب ايام الصيف على كل مطلب اعرف انه ان لم يرفض تماما تلبيته فسيقزم ويفصل على مقدار ما يراه الوالد وحده يناسبني...

وبعد انتهاء كل صيف انتهي على تنطع بشرة وجهي وعلى ظهور بهاق بعنقي وخلف ظهري وبصدري بالاضافة لسمرة حالكة تصبغ جلدي ولتلف يعم شعري...ويبدا من هنا ومن هناك ومن جديد مسلسل التنمر علي ومحاولات النيل مني..النظرات المحتقرة لما يكونه لباسي ولشكل محفظتي الرخيصة وللنحول الذي اكون عليه بالاضافة لما صار عليه طول قامتي... ومن جديد النظرات الفوقية والاحتقارية والضحكات الهازئة والتعليقات الساخرة والاجبار على الوقوف للنيل منك وجها لوجه من اولئك الذين كمن عاهدوا انفسهم ان لا يحلوا عن دربي ابد الابدين.... 

ومن جديد يعود السيد الوالد لنظام اللتر الواحد من الخمرة الذي يخففه بنصف لتر ليمونادة سوداء وليزيد عليه ايام السبت والاحاد ان كان لوحده خمس جعات...ولنظام اتركوني لوحدي ولاداعي لازعاحي بكثرة طلباتكم فانا اتعب من العمل والتحضير له ومن حقي ان ارتاح قليلا مع نفسي.... 

ومن جديد اكتشف كم ابتعد كل اخوتي عني ولم يعد لهم الكافي من الوقت لتزجيته بجانبي وتعليمي حيل والاعيب الكبار او الجديد من المهارات...

ومن جديد نبرمج عصبيا كلنا على خرجات الوالد ليشرب مع اعمامنا او اصهاره بالجنان او ببيت العائلة وما قد تعنيه عودته ثملا او مستثارا منرفزا من عربدة له لما بعد الثالثة صباحا بالبيت وقد يرفع صوت التلفاز لاخر مداه او صوة مشغل الكاسيط برغبة في ازعاج الجميع والتعبير بطريقته على انه حر وصاحب ملك له ان يتصرف بداخله كما يشاء.... 

في الصيف قد يعود متاخرا وقد ينام بمنزلهم  لكن في عودته المبكرة للبيت لا معنى لها الا ان معركة كاسرة ستنشب داخل بيتنا وبلا اي سبب يذكر وباحتمال ان يتصيد اي واحد من اخوتي بما فيها نحن الصغار ليبدا عربدته وسبابه ولعانه وقلبه للطاولة علينا...

وبعد انتهاء  سبتمبر ودخول اكتوبر اكون قد وضعت قائمة ذهنية طويلة بالمتنمرين بي وللذين لن يحيدوا عن طريقي ودائما بلا سبب او بنفس السبب هو انني لا اقنعهم لا بسلوكي ولا بهندامي ولا بهيأتي ولا بما ابديه من احترام تقريبا للجميع.. 

وبدخول اكتوبر اكون قد عرفت في اي خانة وضعني معلم اللغة العربية كما معلم اللغة الفرنسية والرياضيات وفي العادة لا اكون في الطاولات الامامية وانما في الوسط او الوسط المتاخر بما يقول ويحد من مرتبتي ومن نسب مشاركتي في الاجابات الشفاهية والمرور الى السبورة لانجاز الاجابة على التمارين 

وبدخول شهر اكتوبر اعرف الى اي حد سأمايز داخل الفصل بين من هم عن حق مجتهدين ومتفوقين نسبيا وبين من هم ابناء ذوات وموصى عليهم ومن هم في صالح المعلم ان يستفيد من وضع ومقام اولياء امورهم لذلك سيقربهم ويعتني بهم دوننا ودوني... ومن جديد يكبر ذلك الاصرار داخلي بان لا احاول فعل الشيء الكثير لانال اي رضى من اي من معلمي بل ولاجعله يعتقد في بانني الغبي والقاصر عن الفهم والاستعاب والحفظ وانني انما ابن ذالك المعلم الزميل له في المؤسسة والذي يعتمد نفس اسلوب باقي المعلمين في دفع ابناءهم للنجاح وحسب مهما كان مستواهم ضعيف او جد متوسط.... 

جلساتي بالقرب من غرفة مكتب والدي التي يجتمع بها مع اعمامي ومع ابن عمتنا الاكبر العربي واحيانا مع زوج عمتي فطوم عبدالسلام السبتاوي... ليتسامروا مع كوس الخمرة والدخان كانت تجعلني قادرا على متابعة احاديثهم وكنت اعرف الى اي حد ان عالم التعليم ورجاله الاجلاء ليسوا كلهم كذلك بفاضلين ولا بالاجلاء ولا بمن يستحقون ان يقفوا اليهم ويدعوا لهم بالوفاء والثناء... كانوا بدورهم جزء من نظام موظفي الدولة المغبونون في اجرتهم والخاضعون لنظام التسخير ولتسلط كبار الموظفين عليهم.. وكانوا في اسفل هرم من بايدهم السلطة التي تمكنهم من تدبر الاتوات والحصول على الامتيازات والهدايا والريع او لنقلها صريحة من الحصول على الرشاوي والامتيازات... لكنهم كانوا واعون بانهم في قلب المعادلة مادام ابناء هؤلاء تحث رحمتهم لذلك كان اغلبيتهم لا يتعاتقون معهم ويفرضون عليهم نظام معاملات خاص ونظام تحصيل امتيازات خاصة... كما كانت لهم اساليبهم في الضغط على ابناء من بايدي اباءهم  واولياء امورهم  بعض من مكاسب الثروة لياخدوا منها ولو بعض قليل منها لكن لا تسامح ولا تساهل في ذلك ايمانا منهم بان الكل فاسد والكل مرتشي فلماذا عليهم هم وحدهم ان يظلوا خاوي الوفاض خاضعين لنظام رواتب هزيلة لا تسد من رمق ولا تكسي من برد او تقيم حائطا ببيت.... 

لا اعرف كل ما يتحدثون في شانه على تمام المعرفة لكنني املك ان استوعبه في معانيه الكبرى وخطوطه العريضة واسخر من نفسي واسخر من كل تلك الاخلاق التي يحاولون حشر معانيها في رؤسنا الصغيرة.. وعبثا تتحول الكلمات التي تتحدث عن الاخلاق والضمير والشرف والواجب وروح المواطنة التي كنت اطالعها واتمعن في معانيها في المجالات التي كنت اقتنيها او تلك التي يسمح لي اخي خالد بان اطالعها... 

كنت استطيع التهام كل ما يقع تحث يدي من قصص ومجلات وكتب مبسطة دونما ان اجد اية صعوبة تذكر خصوصا مع اعتمادي على تجاوز ما قد لا افهمه من كلمات واعتماد السياق العام لتحصيل الفهم وهذا جعلني استسهل الدروس المدرسية وانجاز التمارين المنزلية لكن شيئا كان كالعناد يركبني ويجعلني خصوصا داخل الفصل الدراسي غير قادر على ان اركز مع المعلم ولا احاول جادا انجاز المطلوب مني... انا نفسي لطالما حاولت ايجاد تفسير لسلوكي هذا لكنه استعصى علي ايجاد الاجابة البليغة والشافية... ربما الان قد افهم عني الشيء الكثير لكنني في تلك المرحلة لم اجده غير ظرب من العناد ونشوفية الراس ورغبات مجنونة في ان اكسر خط توقع الاخرين مني... ففي الوقت الذي يثنون فيه على ذكائي وعلى مقدراتي على الحفظ السريع... شيء في يتلف او يصاب بالعطب فيحول دون ان اسعى جادا لتحصيل الفهم المناسب لايجاد الاجابة او الحل للمسالة الدراسية المطروحة امامي... خصوصا بعدما فشلت كل محاولات جعلي اصلح واعدل من شكل خطي ورسمي للكلمات... لعلي في كل تلك المرحلة كنت احاول توجيه الانتباه لما اعانيه من تشوش وبلبلة نفسية ومن مشاكل تكيفية حقيقية مع اقراني ومع كل الوسط الذي اعيش فيه... كنت لعلي انتظر الاهتمام بي والنظر الي وتخليصي من الوضع الذي اوجدني اهلي فيه والذي هو ما اهلني لان اكون المتنمر عليه وليس المتنمر.... 

ما كان عندي مشكل في تعلم اساسيات اللغة الفرنسية اول ما اصبحت تدرس الينا في مستوى الثالثة ابتدائي لكن ميلي للقراءة باللغة العربية ما جعل مستواي فوق المتوسط الى لا باس به ولكنه لم يرقى ليكون جيدا لكن صرامة معلمي ومعلمتي والتميز الذي كنت اشهده والمسه عن كثب بين تلامذة الفصل قوى في الرغبة في التمرد ودفعني لاكف عن القيام باي مجهود حقيقي واعليت كتفي بتلك اللامبالات وقلت مع نفسي فليكن ما يكن لن اهتم ولن ابالي ولا نظر ما عساه السيد الوالد الذي لا يفكر الا في نفسه فاعلا بي.... ولعل هذه هي الحقيقة الوحيدة وكل تفسير لما حصل معي طوال فترة تمدرسي الابتدائي ولما جعل احوالي التمدرسية دون المامول من واحد مثلي.... 

لم يكن في غالب الامر يتعلق الامر بمقدراتي وفعالياتي العقلية والادراكية وانما بنظرتي لنفسي وبنظرة غير راضية على سلوك الوالد تجاهنا جميعا... كنت صغيرا ربما في السن لكنني ما كنت كذلك لكي لا اعي وافهم واحلل ما يحصل معنا ولا لادرك لماذا علينا نحن بالضبط ان لا نكون مثل غيرنا.. مثل جيراننا ومثل عوائلنا... لماذا علينا ان نتجرع المهانة والاحساس بالشماتة او بالشفقة بعد كل عربدة يطلقها السيد الوالد وبعد كل معركة في وسط الليل وصمته يفيق بها الجيران ويجعلهم يخرجون الى الدرب ليتابعوا تطوراتها او ليحاول منهم من يتدخل ويفضها بادخال الوالدة الى منزلهم او لمحاولات استعطاف الوالد من ان يلعن الشيطان....؟!!  لماذا بسبب او بلا سبب ظاهر يعلوا في بيتنا السباب واللعان ومعزوفة " طلقني ان كنت رجلا ودعني امضي لحال سبيلي ها انا واياك بالله وبالشرع...   "

ابدا لم يكن سهل على اي واحد منا ان يبتلع فطور صباح مثل تلك الليالي ليتوجه الى مدرسته ويعبر الحي ويقابل ناسه وناس الاحياء المجاورة التي جاءت بدورها لتتفرج على حالنا وان يملك ان يتصرف وكان لا شيء حدث وان الحياة طبيعية وقابلة للاستمرار على انها طبيعية....وان ادخل انا الفصل وان استجيب للسيد المعلم عندما يطلب منا فتح كتاب المطالعة او نقل كتابة نص القاعدة التي رسمها على السبورة وكانني انا هو نفس تلميذ البارحة او قبل البارحة او وكانني كاي تلميذ نام في بيته هادئا واخد فطوره وقطع الطريق الى المدرسة ويجلس الان طاولته وما عليه الا ان يفتح قليلا عقله وسيتمكن من انحاز المطلوب منه...لا محال ان ينتظر مني ان اكون انا مثل اولئك ولا ما كنت عليه قبلها على طول ايام الاسبوع الفارط بعد ان بدات احاول استعادة صفائي الداخلي من اخر معركة نشبت بالبيت وعشنا بمرارة وحرقة تفاصيلها وتطورتها.... 

لم يفعل السيد الوالد اي محاولة جادة ليحد او يردع المتنمرين بي والذين كان يحدث ان يراهم محاصرين اياي بمدخل المدرسة او بمخرجها... كنت ادرك انه غير مبال الى بالصورة التي كونها ويسعى بكل حهد للمحافظة عليها انه المعلم المقتدر والغير العنيف مع تلامذته وانه المعلم النموذجي المحبوب والمراعى من الجميع.... نعم انا نفسي اشهد له بذلك واشهد ان هذه كانت صورته المعروف بها لكن الى جانب صورة اخرى لا تقال في وجهه وانما تتناول من الالسنة للادان وتطوى جانبا كي لا تثير حفيظة من له مصلحة في الوالد... كان الكل يعرف عنه ان سكير.. عربيد.. وجبان.. وقليل التربية و"مشي راجل بش يضيع فلوسوا على الشراب وخلي والدوا ناقصين... "

لا اعرف لماذا كنت اعاقبه في واعاقب فيه اساسا رحل التربية والتعليم مع انني ساكون الخاسر في منتهى الاحوال... لكنني كنت هكذا....  

السبت، 5 مارس 2022

يوميات : عوالمي السرية..../..النار


 في الاجزاء الكبيرة من ذاتيتي بقيت منغلقا على نفسي ولربما فضلت ان ابقى غير مفهوم وغير واضح... في عز انغماسي في الحياة الاجتماعية كنت اجدني وحدي.. اجد اسوارا ومساحات تناى بي بعيدا على ان ادوب بين الجموع واكون كواحد منهم.. لم احتاج في كل مراحل عمري ان اعرف هل مثل شعوري هذا معمم عند الجميع.. وهل هو عادي جدا بحيث لا يشكل اية مفارقة....!!؟ 

كثيرا ما كنت انتبه لنفسي فاجدني خارج السياق العام وانا اجلس طاولة الدرس بالفصل والجميع منكب على انجاز المطلوب منه اجدني منفصلا عنهم وعن ما اكونه كتلميذ مستوى ابتدائي وتكبر غربتي...اظل احدق وارنوا لبقية اقراني بالقسم غير قادر على اركز في المطلوب مني انجازه ولا حتى متابعة المحاولة واستغرب كيف يكون بامكان الكل على الاقل ان يحاول الانكباب على واجبه الا اياي فانا ابعد على ان اجدني مثلهم بما لا اعرف كنهه او سره...كل ما يتضخم داخلي احساس بالرهافة حد الرغبة في درف الدموع والبكاء والانسحاب الى بعيد حيث يكف كل العالم ان يوجد بالقرب مني او على مراى مني....حتى وانا مقبل على مشاركة ابناء حينا لعبة كرة القدم التي لا اجيد في لعبها اي شيء فكان يحتفظ بي كحارس مرمى..تقريبا كاي شخص غير مطلوب منه في النهاية غير ان يحاول التلقي للكرة وان عبرت للمرمى فلا ريب ان الخطا لا يترتب كليا علي وانما على الدفاع وعلى من لم يحسن تصيد الكرة من الخصم وصد هجومهم..اما انا فلقد كنت على تمام العلم ان مكاني ليس بهنالك ولا بجانب كل ابناء الحي ولا وسطهم وانما لربما في مكان بعيد عنهم اراقبهم او لا اراقبهم..اتابعهم او لا اتابعهم..انظر للاشياء من حولي او فقط ابصر ولا ارى اي شيء لانني ببساطة اعيش الغياب وغارق في ذاتي...

اعود كثيرا لفترات الصبا كمن يفتش عن حقيقة لربما اضاعها وامعن النظر طويلا في الكثير من التفاصيل الدقيقة لعلي اعثر على فهم يقول لي بان الخلل ابتدا من هنالك فاقنع به لكنني مع كامل الاسف اعود خائبا..خاوي الوفاض...وبشبه قناعة بانني ابدا كنت كذلك 

حلمت باشياء كثيرة ورتبت لي عدة اشكال ممكن ان تتواجد عليها حياتي الا ان اكون ومن البداية هكذا..ابعد على ان اجدني بين الجموع وبين الناس كاي واحد من الناس....

لم اتغير كثيرا على ما كنت عليه من طفولتي الاولى..اقف على مسافة من الاخرين..اضع يدا خلف ظهري الذي اكاد اسنده جدارا وانظر متابعا هرج ومرج ولعب وتدافع وسقوط هذا وعدو ذاك ومشي اولئك مكاتفين بعضهم وانزواء اخرين.. ثم اعاود النظر الى حالي واجدني غيرهم... لا اكاد اجد مكانا بينهم او اخال ان مكاني على الاقل لا يمكن ان يوجد وسطهم ومعهم ولا بالامكان ان اشاركهم ما هم منغمسين فيه بكل حماسة ونشاط او عنف ورغبة فيه...

كنت احب ان لا اغفو عن متابعة السيد والدي وهو لجانب بعض معلمي المدرسة يدخن سيجارته ويتسلى بالحديث اليهم.. كنت اجده في محور الحديث ويسيطر على انتباه زملاءه.. واكون ساعتها احمل عددا من الاسئلة بخصوصه... بكيف يكون له ان يبادر بالحديث ويكون في مركز المحادثة بل ويشد انتباه الجميع على انني اعرفه في  العادة لا يجرا على يفعلها ويلعبها كذلك  ان لم يكن محتسيا كؤوس خمرة وشراب... ثم اعود لسابق معرفتي به هو لا يقول شيئا جديدا هو يستعرض ما هيائه جيدا بالبيت وتدرب عليه حد حفظه ليساير الجو العام والخاص لزملاءه السادة والسيدات المعلمات وليبرز ذاتيته ومكانته بينهم... انه لا يفتا ان يمارس نوعا من السياسية الاجتماعية.. اما والدي الذي اعتقد انني اعرفه جيدا فهو غير اجتماعي وميال للانعزال وخجول بدرجة متخفية وجد متحفظ في ابداء اراءه ووجهات نظره الخاصة لانه بدرجات متفاوتة ريدكالي في افكاره ويمتلك نظرة حكم وتمييز متكاملة تقرا في العمق ولا تجامل او تتزلف الحقيقة.. وعلى ما يمكن ان تبرز من كم التناقضات التي يحتويها فكر هذا الرجل الذي يكون بالمناسبة السيد الفاضل والدي فهو مؤمن بها وكثيرا ما اجده صاحب مبادئ ورؤى ثورية وحديثة على تكوينه الايديلوجي الديني واعتزازه من كونه من حفظة الكتاب المقدس  القران الكريم... 

اظل متابعا له من بعيد ومن عدد من الزويا وسؤوال يكبر داخلي هل تراني اشبهه وساكون مثله كما يحكي عن ذلك افراد اسرتنا وعائلتنا من موقع اننا بذات الطباع ومتشابهون في نقط متعددة...!!؟ 

يسعدني ان التقي معه في جوانب من شخصيته ويحدث ان اشعر بالفخر لكنني في قرارة نفسي اجدني مختلفا عنه ومختلف حتى عن خليفته اخي الاكبر خالد.... 

الحاصل الذي انتهي عنده في علاقاتي به باننا لسنا على سواء واجدني قد لا اكون راغبا في ان اشبهه او اكون مثله... 

والدي سيد على بيته ومن طينة من يحكم ويفرض تمام سيطرته على كل شيء ومتعصب في فرض ذاتيته وذوقه واختياراته... ومن من لا يقبل الاختلاف معه وها هنا يتصرف كطفل صغير عنيد واناني....   

وانا بعمر السادسة والسابعة كان يلزمني ان اجد والدي بجانبي.. احتاج اهتمامه بي لذلك كنت اجدني مخاصمه طوال الوقت وفي نفس الان مستعد لان اسامحه بمجرد ان يدنوا مني ان يبدي القليل من الاهتمام بي... بعدها وبعمر الثامنة والتاسعة لم اعد انتظر منه الكثير لانني بدات اتقبله كما هو واتعامل معه بنوع من التجرد والحياد.. ان اقترب مني اقترب منه لكن دون ان اسعى انا لطلب ذلك الاقتراب.... ربما لانني كنت قد بدات افهم واستوعب محدودية الحصول على كل ما ننتظره من الاخر... اي اخر.... 

في البيت لا احدا منا يعرف بشكل جازم كيف تتدبر اموره المالية ونفقاته حتى الوالدة نفسها مع كل محاولتها لتتحكم في مجرياته يكبر الامر عليها لان السيد الوالد غير قابل ليترك الامور تخرج عن سيطرته فهو وحده من يملك القرار ومن يملك ان يدهش ويفاجئ ويتراجع عن قرار سبق وان اتخد.... 

السيد الوالد كان متكتما للغاية في شان مدخوله وراتبه والتعويضات التي يمكن ان يتحصل عليها كما عن حجم مدخراته ومهما حاول الاخوة الكبار التكهن بخصوص ذلك يفاجؤا بانهم لن يقيموه حق تقييمه لانه من البداية يجهلون حقيقة ما يملكه ويحتكم عليه مما يمكن ان يكون قد صرفه او حوله للادخار.... 

لم يكن ممكن اقناع الوالد مثلا بضرورة اقتناء حداء جديد لان الوحيد الذي تمتلكه قد تلف وتمزق لانه قد يصر على ان حداءك بعد لا ينقصه الا اصلاح طفيف وسيكون بعمر جديد واضافي.. وكذلك كان الامر يسري على كل شيء اخر بالبيت من وابور الغاز الى مفتاح الكهرباء الى حنفية تالفة وقديمة الى قطعة اثاث او لباس اخر.... الى قلم حبر او دفتر او غلاف كتاب او محفظة مدرسية..... 

لم نكن لنجادل في حقيقة بخل والدنا من عدمها لاننا بداية لا نملك اي كشف للحسابات المالية ولاننا كنا مقتنعين او شبه كذلك بان المهم ان تضل العجلة تدور وتمضي باي شكل وكيفما اقتضى الامر ولعلنا بتنا نثني على عبقرية الوالد الذي يتدبر الامور تقريبا من لا شيء والذي يعيد القديم جديدا والغير صالح نافع.... 

لعلي ما كنت لاتضايق من اوضاعنا الحياتية والمادية بالقدر الذي وجدتني منهكا نفسيا به لا لما تكون وتوجد عليه تلك الاوضاع ولكن عن الصراع اللامنتهي بصددها بين الوالد ووالدتنا.... كان ذلك التشاحن اليومي قاتل للاعصاب ومذل وينخر احساس اي واحد منا بكرامته واعتزازه بنفسه خصوصا وان الامر ما كان يمضي بصمت او بخفوت صوت وانما بالضجيج والصراخ والغواث ويتطور للعراك ويعرف به كل جيراننا ويصل صداه للعائلة والمعارف...  

لم يكن ممكنا ان تظل تتفرج ولا حتى ان تحاول التدخل مع اصرار متبادل على قول كل شيء واي شيء ومع يقين داخلي عند كل واحد من والدي بان حياتهما اضحت كما هي عليه في الحال وان لا خيارا اخر ممكن ومقبول يمكن ان تؤول اليه الامور بينهما.. وان كل ما يصرح به او يهدد به او يدفع طرف في اتجاه اتخاده سيبقى مجرد كلام ومجرد تصريحات وبالضبط محرد حرق للاعصاب واتعاب للنفسية.... بات كل واحد منا مقتنع بانه ان لم تنشب معركة هذا الصباح او هذا المساء او في الغذ فبعده ستنشب و"الله يخرج العاقبة على خير والسلام... "... 

شيء مثل التطبيع اتخد حيال خلافاتهما المستمرة وشيء اخر مثل الاصطفاف كان يعتمل بين الاخوة وبشكل مستثر ومتخفي حتى لا يحتسب كخيانة او غدر بطرف من الطرفين والحال ان والدينا كل واحد منهما كان يعمل على كسب طرف لجانبه... اخي خالد كان يقف في الوسط بينما اخي سمير ما كان يقوى على احتمال ان يرى الوالد يشط في سلطته ويعلن العدوان فيفضل ان لا يراقب عن كثب تطورات الخلاف... اخي فؤاد  الشبه غائب عن التواجد في المنزل بحضوره يخشى عليه من اخي سمير اساسا ان يتدخل في مجرى الخلاف والصراع واخي فؤاد معروف عنه شدة عصبيته وانفعاله وكظمه الشديد... اختي الصغرى تظل تنظر الى والدنا وتستعطف ثم تحشرها والدتنا في زاويتها كمن تحتمي بها من ضربة قد تنزل عليها من السيد والدنا.. وانا يا انا... ما عساني اجرا على فعله.... اتعب من النظر في وجوه اخوتي... اتعب من تمني ان تنتهي المعركة بسلام ودون خسائر... واتعب من محاولة فعل اي شيء ومن محاولة التفكير في فعل اي شيء يمكن ان ينزل كبرد وسلام بينهما وعلينا جميعا.... وعادة كان تدخل اخي سمير الحاسم في المعركة واحلال الهدنة المؤقتة بينهم وهو ما لم يكن بيد خالد الذي كلنا كنا نعرف انه ومن حيث لا يريد حتى هو منحاز عاطفيا للسيد الوالد ولن يجرا على تدخل ناجع يحسم المعركة ولو في شقها الاعتباري والادبي لطرف على حساب طرف اخر..... 

نهار اخر يمضي او ليل اخر لم يبقى في سويعاته الا النزير يمر وعلى نفس الترنيمات والمعزوفات ينقضي ووحده ترقب المعركة القادمة ما يضل يرنوا في الافق.... صمت مطبق يحيط موضوع الخلاف لان لا فائدة ترتجى من مجرد العودة اليه والخوض فيه لانه تعدى ان يكون مهما كان هو السبب سبب الخلاف وانما تواثر الخلافات ولا نهائيتها تظل بشكل مجرد لوحدها ام الاسباب..... 

ننسى او لا ننسى...نكبت مشاعرنا المجروحة ونحاول السيطرة على كل القلق الذي يثار فينا وعلى مخاوفنا ونحاول من جديد ان نتعايش... وعلى اننا كنا صغارا كان كل الاخوة يعرفون ان المشاكل تلك وكل ذلك الكم من الصراخ والعنف والتهديد انضجنا وفعل عميقا فينا "وغير الله يستر وكان...." 

لا شيء كان يعود داخل الاسرة بشكل طبيعي او سلس بل كل شيء كان يحتاج الى عدة محاولات والى توسل عدة صيغ واساليب ترميمية لاستعادة العلاقات الى سابق ما كانت عليه في اخر مرة ليس الا وليس الى سابق عهدها لانه كان من شبه المستحيل  ان نبتلع الامر بجرعة ماء ونهضمه وكان لا شيء حدث..... 

كنت صغيرا على اجتراع كل ذلك الهم...كنت غير قابل للاقتناع بان ما يحصل معنا وباسرتنا شيء يمكن اعتباره طبيعيا ومستساغا...لا املك ان اجد اي مبررات تعيد لداخلي الامن المهدد باستمرار..ولا املك اساسا اي وعي يمكني من الركون الى اي جانب او اختيار ما لا املك ان اختار فيه والذي كان يلوح في ذهني وتصوراتي كما التالي:"مع اي طرف يمكن ان امضي او اختار ان ابقى لجانبه لو تحتم الفراق....!!؟ "....


في لحضات الفرح او في لحضات الثوتر اظل انا كما هو انا عليه اراقب بتوجس حالنا واحاول قراءة ملامح الوجوه وحتى الصمت دون ان استطيع التخلص من هذه العادة التي تتعبني واكتشف لحد ما عدم جدواها..اذ ماذا يفيد ان اعرف الى اي حد الامور في البيت قد تتصدع ونار معركة جديدة قد تنشب؟!!..ما فائدة ان اظل متيقضا اقيس الوضع كترموميتر مستشعر للحرارة وانا لا املك القدرة على توجهيها الوجهة المبتغية..وجهة ان لا تتاجج وان لا تندلع نارا تحرق اعصابنا وتبتلع هدوءنا وسلامنا الداخلي....

كنت اعرف لحدود بعيدة ان اقرا مؤشرات الثوتر حتى في بداياته الاولى وكنت اعول على اخي سمير الذي اجري لاخبره بتكهناتي ان يفعل شيئا..ان يتدخل لمحاولة احتواء الوضع قبل ان يتطور...لا اعرف تماما ان كان حكمه في محله من حيث ان والدتنا كان ينقصها التصرف بحكمة ودهاء لانه كان يرى بانها دائما تمكن الوالد من ان ينال منها ويسجل نقطا عليها وعوض ان تتصرف بلا مبالاة ولا تمكنه من اسباب قلب الطاولة عليها وعلى كل من في البيت كانت تنفعل وتندفع وهي تعرف انها في البداية والنهاية مغلوبة على امرها وان السيد الوالد ما عاد هنالك شيء يمكن ان يردعه ويحول دون ان يتخلص من شحنات توثره وقلقه الداخلي على ذلك النحو العنيف والسادي المرضي....

اخرج من المدرسة والحق بوالدي في طريق العودة للبيت وانا لا املك ان امنع افكاري من التناسل ولا تصوراتي من ان  تتبدى حول ان  كان ما ان  سيدلف باب البيت حتى سينتهزها السيد الوالد فرصة ليفجر غضبه وكبته الخاص وليوثر الجو حسب هواه ليخول الى شرابه وخمرته والى جو موسيقاه واغانيه المفضلة ولينتهي على سباب والعربدة غير مراع لنا او لحيراننا....

تعبت الوالدة واتعبتني شخصيا معها من كثرة شكواها وتدمرها وتشخيصها لسبب المشكل الاساسي في اثارة المشاكل داخل البيت فهي لا تكف على ان ترى ان اصرار السيد الوالد على تعاطي الخمر والشراب هو المصيبة العظمى التي تهدد فرص السلم والامان داخل اسرتنا بالاضاقة الى اصرار السيد الوالد على استضافة اخوته ليانسوه في جلساته الخمرية....والوالد مهما قيل ومهما نهي عن ذلك من افراد عائلتنا فهو مصر على انه حر في ان يفعل ما يحلو له مادام يرى انه غير مقصر في واجباته ومسؤولياته....

تعبت من ان اجد الوالدة تشكوا وتبكي وتنتحب وتلعن حظها العكر ومن متابعة السيد الوالد وهو يراقب الوضع من ناقدة الطابق الاول الذي نسكنه ليتسلل حاملا قفة او حقيبة تسوق قاصدا محل بيع الخمور للتسوق منه وبرغبة ان لا يكون ملاحظا او لفت انتباه احدا من الجيران او من اولياء تللمذة فصوله الدراسية...

يومين..الى ثلاثة ايام الى حتى خمسة ايام بلا خمرة كانت توثر الوضع غاية الثوتر بالبيت لان الوالد كان يبدوا خلال تلك الايام التي لا يشرب فيها متشددا وغير متساهل ولا شيء له ان يرضيه...وجد متحسس حتى من نظرات الوالدة ومن عيوننا التي تتفحص عودته من خارج البيت وهي فاضحة نفسها وتطلعها ان كان قد عاد متسوقا خمرة او لم يغعل ذلك....

لا اعرف كيف اتخدت القرار بيني وبين نفسي ولا كيف سولت لي نفسي اصلا ان افكر في الامر على ذلك النحو وان انشغل به الى حد ان ينضج واتخده كقرار ووعد دينه علي ولا من كنت اريد ان اعاقب بمثل التفكير في اتيان مثل هذا السلوك...!؟ لانني لا اخالني كنت به او عبره اسعى متقمسا حال والدنا او اريد ان اكون مثله ولا لانني كنت مستلبا بتلك الاجواء التي كان يخلقها التعاطي لذلك المشروب بين اعمامي ووالدي او ازواج عماتي واصهارهم...

لا اعرف لماذا اخدت اكون علاقة مع قنينات الخمرة ومع كوسها ومع طقوس شرابها وبيني وبين نفسي اصيغ قرار انني لا محالة ساشربها وساصاحب هذه النار التي اكتوينا منها كلنا وجميعنا....




Tariktariko

 ماذا تركت خلفي حين ودعت جماعة الرفاق في اواخر سنة 1988 ؟! هل تركت مكانا اشعر حقا بالانتماء اليه ..؟! هل تركت هدفا يعوزه التحقيق ..؟! وهل فع...