لا حاجة لي في ان احكي قصة ولا في ان اخلف اثرا ورائي... كي افكر في ان اخلص سريعا من سرد احداث واغلاق النص بداية بعنوان ونهاية بتوقيع او تاريخ... همي لا يتعدى الرغبة في البوح ولربما محاولة الاعتراف وقد يتعداها الى رغبة قوية في استجلاء كل ما لم اقوى على نحو واعي من الوصول الى كشفه عني وعن رحلة العمر التي اوصلتني الى ها هنا...
انا نفسي ادرك ان مرحلة تطوي مرحلة من عمرنا وتاخدها بعيدا او عميقا في تلافيف الذاكرة حتى لنخال ان العمر كله هو ما نحن عليه ونعيشه الان والباقي او ما كان بكل تفاصيله لا يتعدى ان يكون ذلك الماضي الذي كل دوره انه اوصلنا الى ها هنا ويكفي اننا ها هنا والباقي كله مجرد تفاصيل لن تغير من حقيقة وضعنا في هذا الحاضر...وان تلك الرغبة في حكي حكاية قد تروادنا جميعا على قناعة بانها قد لا تضيف الكثير وقد لا يستهوي العديد متابعتها.. وليكن.. انا ما همي بقص حكاية هذا الذي اكونه وانما بمحاولة اعادة اكتشافه كما كل الاشياء التي اعتقدت فيها طويلا ولربما اتى علي زمن لانكرها علي...
كنت ذلك الطفل الذي يتعلم من الاخرين..من محيطه..من من ياخد بيده ويعرفه اسماء الاشياء وموقعها من الوجود ومعانيها...كنت ذلك الكائن الذي يحس بالاشياء ويفهم او لا يفهم تماما ما تعنيه تماما ولا كيف يقولها الكلمات ويعبر عنها في جمل وتعابير...ولكنه يختبرها حسيا ويكبرها تخيليا وهو يسافر معها في محاولة القبض على معانيها ذاتيا دون ان يستوعب تماما بانه بذلك النحو يطور من ذاته ويصنع تفرده...
كنت ذلك الطفل الذي وجد نفسه باسرة وبقدر صنع الجزء الاكبر منه دون ان يستشار او يخير او يكون له اي دخل فيه....وادرك وهو يدرك بداية حجمه وقوته من بين الناس بانه محكوم به ومقهور عليه وكل جهد قد يبدله لن يكون كافيا تماما في تغير القدر الذي اوجد له قبل ان يخرج للوجود وقبل ان يبدا في ادراك الاشياء من حوله....
حدث ان رفضت واعليت نبرة الاحتجاج في وجه كل من اراد اخباري انه قدري وان علي ان اومن به واقبل باكرهاته...كان السيد الوالد عندما اطالبه بفعل شيء حقيقي لمساعدتي على خلق وجود اجتماعي لي مختلف يرفع كتفيه بلا مبالات وبالكثير من السخط ويقول لي:"انا مشي وزير ومكنعرف حتى حد..دبر لراسك..خرج دور على خدمة...خرج دور....."كنت اشعر به انه بداية غير مقتنع بما يدعوني لافعل وانه كل ما يحاول فعله ان يجعلني أيأس واقبل باي شيء قد اقابله...ان تكبر الحياة علي وانهد واقنع باي شيء اجده...ان اتعب من اللف والدوران والفراغ وتبدا احلامي في الاضمحلال امام نفسي وابدا في تقليد الاخرين على اعتبار انني لن اكون احسن منهم مهما حاولت وان اقصى ما يمكنني فعله السعي مثل سعيهم والسعي مثل اي مهدود وقليل الحيلة منهم يوازن قدرته قدرتي على تدبر الحلول وابتكار المخارج من الورطات والمطباث....
لم اكن لاعاند..لم اكن مجرد معاند بقدر ما كنت مقتنعا بانه علي ان لا ارضخ لواقع الحال الذي يضعوه امامي بعدم محاولتهم لمساعدتي عن حق بداية بالاقناع بمقدراتي وثاليا بمدى اختلافي عن الاخرين....
الان والبارحة فقط اعدت على نفسي نفس الاسئلة وكان اليوم هو يوم عيد الام...وامي بعد باقل من نصف السنة من ان فارقتنا وودعت دنيانا..لماذا رفضت وباصرار تام على ان اخدمها لذلك الحد الذي تنكشف امامي عورتها...؟! لماذا لم اقبل ان اتبادل معها الادوار وان اعاملها كما عاملتني وانا طفلها تهتم بنظافتي وتطهيري واغتسالي دونما وضع ذلك الحاجز النفسي الجنسي وهي تتعامل مع جسدي...كامل جسدي الذي تكون بداية في احشائها وخرج لحظة الوضع من جسدها من ذلك الجزء من جسدها...؟! انا قلت ببساطة ووجاهة لربما بان المشكلة ليست عندي تماما وانما في نوع التربية التي تلقيتها والحدود التي اسسوها هم والتي علي ان لا اتجاوزها... كنت اقول بانني لم اتربى في السويد لاتعامل بمنطق مختلف عن ما تقول به بيئتنا وتقاليدنا وعادتنا... كنت اعرف في قرارة نفسي وعلى نحو واعي بانني اقول بافكار رجعية وبانني متناقظ مع افكاري التقدمية والتحررية وبانني استسلم للطابوهات التي قطعت معها وانني لربما على نحو اتلكك واصنع صنعا تلك الحواجز النفسية والسيكولوجية.... لكنني كنت اعود لنفسي واقول لا وكلا لست انا من يفعل او يلجا لتلك التبريرات او يقبل بها وانني متصالح مع نفسي ومع جسدي ومع الجسد عموما وكيفما يكون موقعه في دائرة القرابة التي تاطرنا اجتماعيا وانني ومن زمن طويل واجهت نفسي وسالتها عن تلك الحدود وبحث في شانها وخلفياتها ووجدت نفسي اهيأني عمليا للتعامل معها بكل حيادية وبدون اية خلفيات دينية او اخلاقية او اجتماعية بالية... ومضيت لاساءل نفسي بعيدا حتى سيكولوحيا وفي ما يمكن ان يشكل عوائق ذهنية كصور قد تلصق بذهني وتتعقبني وتكبتني او تحسسني بالذنب او بانني على وشك ارتكاب الخطء او الاخطاء والزلات.... من زمن بعيد كنت اعامل والدتي كصاحب لها وجسدها مني ومنه انا ولا خوف علي ان اتركه يتسلل الي ويقلقني او يوثرني وهو قد يتجسد ويحاول تعقبي كاخلية جنسية او حتى ان يتشكل كرغبات مكبوتة من شانها ان تضعني في بلبلة نفسية ولا اعرف كيف اتحاوزها او اتخلص منها... كنت استحضر ذلك الفهم القاصر الفرويدي عن عقدة اوديب وعن الجسد او الرغبة المحرمة... واضحك لانني كنت على قناعة بانني تجاوزت فهمها واستعابها السطحي والمرضي ونفذت الى اعماق ما تحيل عليه وتتناوله وتريد التعرية عليه.... انا قد ازعم بانني اعرف نفسي جيدا وكذلك اعرف فكر ومراجع الوالدة والاحكام الاجتماعية التي تاطر فهمها وتعاملتها.. وكنت الى حد بعيد اعرف انها في قرارة نفسها ترفض الاحساس بالضعف والاشفاق عليها وان تتوافق احتماعيا مع فكرة انها قد اعدت احد ابناءها جيدا ليتعامل معها ومن اجل ان يرعاها ويخدمها الى اخر نفس من عمرها وبكل ما قد يتطلبه وضعها... وانها كانت تعدني لذلك وهي تسرد لي قصة ابن ابن اخيها الذي راعى عمته في احرج اوضاعها ومتطلباتها وبيني وبينها ودونما حديث واضح او خطاب صريح كانت تقسوا علي وتستفزني كي تخفف عني لوعة الفراق الاخير انا الذي "قدر" علي ان لا افارقها وان لا افارق عشها كل عمري... وكان علي ان افهم وان اتواصل معها بلغة خاصة جدا تعبر خلالها عن اسفها.. عن خالص اسفها لما صنعته بي.. لما جبلتني عليه ولما كانت تهيئني اليه والذي كان انانية منها لم تراعي احساساتي ولا رغباتي انا....
وجدتني اقول لا... لا عالية... لا يمكنني ان اضطلع بذلك الدور وانني لا اطمح في نيل اي رضى ولا وعدا باي جنة او فردوس في الخلد يضمنه لي شرف خدمتها في امور جد خاصة وحميمية... طرحت جانبا كل استعدادتي وتنكرت لها بكل انفصام على ما انا بالفعل قادر عليه واستطيع القيام به لا خوفا من اشكالات ذهنية او سيكولوحية ولكن بالاساس لانني تعبت من كل ما ظل يلاحقني من وصم اجتماعي قاس ومن كل ما ظل يحاصرني به الاخرون وهم يقحمون انفسهم بلا اي وجه حق ويسالون موضوع هويتي وجنسانيتي واختياراتي.... لا.. لن اقبل اختبارا وابتلاءا اخر قدريا من صنيعة مجتمعنا وتخلفه وصراعاته وتناقضاته... لن اقبل ان استغفل اجتماعيا من جديد ولو تحث اية مسوغات كانت.... لا اريد ان اكون ابله القبيلة من جديد....
القدر نحن من نصنعه ونعلقه على السماء كي نخلي مسؤليتنا عنه... القدر صناعة محتمعية واتفاق اجتماعي او تواطؤ اجتماعي كنا نحن المحكومون فيه والمجبرون على ان نختار فيه لكننا لا نريد الاعتراف باننا نحن من اختار وفضل ان يختار فيه بحسب ما تقتضيه مصلحته الفضلى... مصلحته هو وعلى الحميع ان يتضامن معه ولو بالصمت وتجاهل الحقائق الموضوعية التي لم تراعى او غيبت وتجاهلت...
كل الخلاف الذي عاش بيننا كل عمري انا واخي الاكبر لم يكن خلافا شخصيا او عاطفيا وانما كان خلافا على سلطة الاخ الاكبر الذي،عليه ان يساير نظم وقيم واختيارات السلطة الاكبر منه التي كانت بملك الوالدين لانه يستمد سلطته منها لا من غيرها....
كل التجادب الذي عاش طويلا بيننا لا تمكن من ان يبلبل مشاعري نحوه واحساساتي بانني احبه اكثر مما قد يشكل موضوع حماية لي لكنه كان تجادبا واعيا مقصودا ومؤسسا على رفض ان يفرضوا علي ما يقولون عنه انه قدرنا وقدري... لا سيدي بامكاني ان اعلنها صريحة وعالية ومزلزلة قدري يخصني انا وحدي وانا من املك ان اصنعه ولن اقبل باي تفصيل لادوار على مقاسكم ومقاس ما يناسبكم وما يخدم طموحاتكم وسقفها....
في اخر ايامها وبعدما تمكنت من ان تصنع حاجزا ماديا بيني وبينها واطمانت الى انها انتصرت على اي تزحزح في موقفي اواقدم اي تنازل من طرفي لسابق ارادتها لم يكن يفوتها لتقول بكل اللغات احبك واسفة على انانية كل واحد منا....لم تكن تكثر من طلب ان اسامحها كما كان يفعل السيد الوالد قبل ادراكه انه على وشك ان يوقع نهايته...ودون ان امكنه من سماع انني سامحته او لم اسامحه لانني كنت لا اجدها ذات موضوع يهمنا في مثل ذلك المقام حيث ليس ذي اهمية او يعنينا امر ان يتحقق في مثل تلك الظروف التي اقل ما يمكن نعثها به انها تاتي واتت متاخرة جدا وفي غير اوانها ولن تحتمل اي معنى اخر غير انها لن تتعدى امال او مطامح اخر ساعة التي لن تحدث اي اثر مرجو او مطلوب....
بقيت متصالحا مع نفسي حتى برحيلها واسعدني انني حاولت جاهدا وبالرغم من كل تازم وضعيتي النفسية من ان احاول فعل اي شيء من اجلها دونما احساس بانني اوفي دينا او انتظر جزاءا ولا حتى خائف من الاتي بعد رحيلها....
ما همني نفسي ولا مآلي بالقدر ما همني انني وحتى وان قد لا اكون توفقت تماما في رعايتها واوفيت في السهر على راحتها الا انني جاهدت كي ايسر عليها ساعة الرحيل....
قدري بكل عناد صنعته وربما كان مليئا بالخيبات وتاريخه تاريخ ازمات ونكسات وانشرخات لكنه كان القدر الممكن جدا ان اتشرف بعيشه واكون الوفي فيه لنفسي اكثر من اية قيم او اخلاق او معايير غريبة عني وعن مراجعي....
انا كنت ذلك الطفل الذي تنبه وهو صغير جدا بان عليه ان يكبر وان يستوعب حجمه الحقيقي..حجم وعيه بما يدور من حوله ولما يود الصنع منه لا ان يظل ينؤا ويشكوا من ضعف بنيانه ورخو عضلات جسده...وللان يسعدني ان اكون قد حصلت على اخ مغاير ومنفرد ومختلف وعارف مثل اخي الاكبر مني اخي فؤاد....
يؤسني عميقا كبوة الزمن التي تعرض لها على نحو دراماتيكي اخي الاكبر خالد الذي اقول عن مصابه في نفسه اكثر من جسده او حضور جسده اجتماعيا هو الذي لعله اقتنع بانه مسيطر على كل شيء في حياته واتت عليه اللحظة التي فندت اي ادعاء بانه المسيطر بكافة الاحوال على حياته وعلى شكل وقالب تواجده... نصنع قدرنا اكيد لكن الحياة اقوى منا ومنطقها يخصها وحدها وتصرفه فينا بما تشاءه هي لا نحن ومع ذلك اظل متمسكا باننا نحن من نصنع قدرنا في كافة الاحوال بالرغم من اي اكراهات او اجبارات تمارس علينا وتعترض طريقنا....
كان يفهم ويعي انه مدفوع اكثر من مخير او ممن يقرر في مصيره ولم يحاول ان يفعل شيىا ليغير من ذلك الواقع.. انساق وراء قدر صنعه له السيد والدنا.. فصله له تفصيلا ولا انتبه لالعيب الزمن والحياة حتى اخدته على حين غرة... لو كان من من ترك لنفسه ان يلتقط الانفاس ويراجع نفسه ويرحم نفسه من الجري والعدو في كل مضمار وعلى الاكثر من صعيد لربما ملك ان يفطن ان لكل فارس من كبوة.... لست من يخاصمه او ممن يتشفى في مصاب الاخرين لكن من من خاصمتهم وخاصمت نهجهم طوال عمري دون ان انكر خالص محبتي له... اظل وابقى انا الطفل الصغير وانا اصغر اخوتي في كل حال وعلى اي حال...
كنت صغيرا..طفلا بعد وكانت الافكار تاخدني بعيدا لاستشفاف ما عساها تكون الاسرة والعائلة والاخوة والابوة والامومة وكل تلك المرادفات الاكثر قربا منا والتي لا نتقبلها بمجرد ما تقدف لوعينا ويقول بها المحيطون بنا ولكننا نتساءل طويلا حول مفهومها وحول ما تتضمنه وما يمكن ان يشكل حدودها...كنت ومن بعد ان اخد اخي يختفي بالايام وبالاسابيع يشغلني غيابه واهتم لما كان يحدثه حضوره..وامضي في التقاط اثاره واقف عند اشياءه الخاصة ومكانه من جلستنا على المائدة وفي غرفة التلفاز وعن ساعات تواجده الاعتيادي بالمنزل وعن الاخرى التي يكون فيها خارجه... واتصفح ذاكرتي واحاول استعادة فهم علاقته بي ولماذا يكون لطيفا في تلك اللحضات والمواقف وحاد الطبع عصبي المزاح في اخرى واتساءل حقا عن ما يجمعه بي.. وعن ما تكونه تلك العاطفة التي تقول بانني احبه وهو كذلك وهل دائما وطوال الوقت او في اغلبها او في لحظات فقط... وكان يكبر علي حضوره في البال واسترجاعه في ذاكرتي لما اعرف انه سيحل بيننا قريبا او في ذلك اليوم بالتحديد... واظل على مضض اترقبه وحيرة تهز مشاعري لانني لا اعرف كيف سيقابلني وهل سيعقل علي ام سيعقل فقط على تلك اللحظات التي كنت بشكل او باخر اثير عصبيته واجعله يثور في وجهي ويهم بضربي والتي انكره فيها واتنكر لاي عاطفة احسها تجاهه لاعود وبعدها فانسى بمجرد ما يعود مقتربا مني ومقربا اياي منه... واتساءل هل من جديد سيكون علي ان اقف بعيدا عنه مستمرا في مراقبته والتفكر في طريقة لوكه للكلمات وكيف يصوت الحروف وكيف يبتسم ويتفكه وكيف يضحك ويقهقه وكيف يتهندم ويرتب شعره الخشن وكيف يتعطر وكيف يحرص على حمل منذيل معه ليمسح باستمرار العرق من يده وينسى اننا نحسب عرق قدميه اكثر من مجرد البلل الذي يتركه في كفك عند ملامسته له او على خدك وحتى على شعرك حتى وهو لا ينفد لحد ان تشعر به حقيقة على شعرك... نحسب تعرق قدميه وما يخلفه من رائحة كريهة باستمرار وللا سبب سوى لخلل في غدده التعرقية.. وكيف لا اقبل منه قبلاته على خدي وهو يحرص على تلثيمه بشفتيه وليس مجرد ملامسة الخد وكيف يكون عليك ان تحرك ساعدك لتمسح البلل الذي تتركه قبلاته المطبوعة على الخد.... واعود لافكر في كيف ساقابله وكيف ساقبل منه ان ياخدني معه للخارج في اول فرصة ممكنة وقد تكون في غد يوم قدومه وقد تتاخر لبعدها بيوم او يومين اضافيين واتساءل عن هل ستكون شكلية ام سيهبني كامل الوقت بصحبته والتحدث الي ونقل ما يراه يصلح لي من خبرات جديدة حفضها وادخرها لي خصيصا بطريقة يريد بدوره ان يقول لي انه فكر في واهتم بي حتى وهو بعيد عنا وعن المنزل وغائب في مدينة فاس حيث يكمل دراسته الثانوية التقنية في شعبة الفنون التشكيلية... واعود لافكر من جديد في مثل اختياره هذا وهل هو موفق فيه كما كان يتساءل اخوتي الاكبر مني في صدد ذلك واحاول ان افهم خصوصية دراسته تلك وافاقها ولماذا ينظر اليها ببعض الاستغراب والدهشة ويعاودون النظر اليه مليا وكانهم يحاولون اعادة اكتشافه وميله الفني بالاضافة الى دراسته التقنية لها من كل من يساءله عن ماذا يفعل في دراسته خارج المدينة وانا اعرف انه قبل ان يجيب سيرفع سبابته ليعدل من اطار نظارته المذهب بحركة شبه اتوماتيكية تلازمه كلما شعر بالحرج وكيف سيفكر في اخد سجارة وتناولها على انه في نظر الاخرين ليس بالكبير كفاية ليعتاد التذخين فهو اناذاك بعد في سن السادسة عشرة والسابعة عشرة وان يتصرف كالكبار ويحرص على ان يلبس كالكبار وغير مبالغ في التميز كالفنانين بغير كشكول صوفي في موسم البرد والامطار واخر حريري في مواسم الربيع والصيف بالاضافة الى كرفاطات العنق الرفيعة الحجم.. وحتى سلوكه لم يكن فوضويا او هبيا بويهميا كعادة الفنانين بل كان اقرب لسلوك السياسين وذوي الحضور الاجتماعي العلاقاتي... كنت اتساءل ان سيظل حريصا هو على الاقتراب مني وتخصيص وقت كاف لي او تراه سيقصره كعادته كلما طال حضوره وتواجده بالبيت معنا حيث يتحول اللقاء به مجرد لقاءا عابرا ولحضيا وحتى ولو اردت انا ان اطيله لا اجد منه التشجيع الكافي فاعود لانسحب من حضرته واتركه الى ان يشاء هو فينادي علي ليكلفني بامر او ليستعن بي في مسالة او ليقترح علي ان اصاحبه الى مكان ما ومعناها انه لم ينساني ولا يتحاهلني وكل ما في الامر انه كان مشغولا ومنكبا على انجاز الاكثر من مسالة وحالما فرغ منها او قرب من ذلك ها هو ينادني وهاهو سيخصص لي وقتا....
كان الاخ الاكبر لنا... وبمجرد انتقالنا الى منزلنا الجديد بالعرائش اتخد مسافة منا.. اصبحت هناك مسافة مكانية بيننا حتى ونحن نعيش بنفس المنزل لانه اصبح بغرفة مستقلة يشاركها اخي سمير.. غرفة بسطح المنزل يقضيا بها اغلب اوقاتهما وينامان بها... كانا خارج البيت.. خارج ابواب منزلنا.. بسطح المنزل ويملكان مفتاحا خاصا لغرفتهما.. واصبح من شانهما ان يقابلا اصحابهما بها ويقفلا الباب عليهم بها.. كانا يسلكا سلم الدرج من اول باب البيت باكمله الى السطح مارين على الطابق الاول الذي نسكنه جميعنا ولا نسكنه جميعنا لان غرفة السطح اضحت عبارة عن مسكن خاص بهما.. ولم يمضي وقت طويل على وصولنا الى مدينة العرائش حتى رحل اخي الاكبر الى مدينة فاس ليقضي بها ثلاثة سنوات وليرحل في سنة 1983 الى فرنسا وبعده بعام يلتحق به اخي سمير وفي دجنبر1987 قررت الرحيل دون ان احسب جيدا معنى الرحيل وما قد يكونه حقيقة ولا هل انا جاد فيه.... لكنني كنت مسكونا بالفكرة لدرجة الجنون.... من مارس 1972 الى يونيو 1978 حيث وصلنا الى مدينة العرائش كان عمري ستة سنوات والتحقت بالسنة الاولى ابتدائي في الموسم الدراسي 1979/78..وفي 29 دجنبر 1987 كان عمري خمسة عشرة سنة واشهرعندما نفذت المحاولة الثالثة على ذلك النحو الدموي بنية الرحيل واللارحيل لانني كنت كمن يقامر ولا يعرف حقيقة ما قد يقابله.. كنت عندها اكرر السنة الدراسية في مستوى الرابعة اعدادي.. ومن هنالك.. من ذلك التاريخ تغير كل شيء في حياتي.... لانني اصبحت هرما كشخص شبع من كل الحياة
اخي الاكبر كان قد عاد من فرنسا والتحق بالمدرسة الجهوية لتكوين الاساتذة في شعبة التربية التشكيلية بمدينة طنحة وبمنزله المكترى هنالك قضيت ليلة راس السنة الميلادية 1988...
كنت طفلا صغيرا بعد ولا كانت تفوتني هواجس وافكار وخواطر تنظر في حالي من حال اخوتي الذين يكبرونني وماضون في استقلاليتهم بانفسهم واختيار مستقبلهم... صغير لكن بكامل القدرة على ان اسمع جيدا لما يدور بينهم ويشغلهم الحديث عنه ولانظر فيه من موقعي ولاتساءل في شانه وما قد يعنيه لي انا بخصوصيتي وباستقلاليتي عنهم كذلك... كانت الاربع سنوات التي تفصل الاخ الاكبر مني "فؤاد" كافية لتجعله يبتعد عني باستمرار كي يستحيل ان الحق به ولو مجازيا ما ان اقتربت من صفوف الاعدادي حتى كان هو قد رحل الى مدينة تطوان ليستكمل تعليمه بذاخلية جابر بن حيان التقنية... بقيت الى جانبي اختي الاصغر مني بعامين رفيقة وحبيبة لقلبي وبقي يرقد داخلي ذلك الطفل الخائف والمرعوب والغير قادر على ان يعبر عن وجوده الا بالانكار... ذلك الطفل الذي داوم البكاء تحث الغطاء قبل ان ينام ويصبح مهدود الحيل وبلا خاطر او رغبة في ان يفعل شيء وانما فقط يملك القدرة على التظاهر والاستمرار فيه الى حد لا يعرف منتهاه ولا مستقره...
كنت اعرف انهم يكبرون وانني لن الحق بهم يوما حتى ولو كبرت بما يكفي لاعد كبيرا مثلهم سيبقون اكبر تجارب مني واسبقهم اليها مني..ما كان ممكن ان احتك بهم وارافقهم مراحلهم العمرية وكانت خشيتي ان يبتعدوا عني لدرجة يصبحون غرباء عني او كانني لا اعرفهم....هم غادروا البيت الذي اوانا وجمعنا ببعضنا وعرفني عليهم...وغذت لهم بيوتات ومستقرات غير هذه التي لازلت تأويني... وماضون في صناعة اقدارهم بما قد لا يكون لي مكان لجانبهم فيه... كنت بما لا اعرف كنهه اشعر بالافتقاد لهم كلما كبروا وكبرت بدوري... وكان يخيفني الفراغ الذي اضحت عليه حياتي داخل البيت الذي كانوا للامس القريب فيه لجانبي وقربين مني حتى ولو كان لكل واحد منهم مساحته الخاصة ومسافته مني... كنت اخاف من ان يكبر حجم هذا الافتقاد ليتحول لما يشبه الموت وان تنتهي كل تلك المشاعر التي جعلت منا نعترف ببعضنا اخوة واخوانا... واسرة صغيرة نعيش جماعة ونتقاسم مستويات العيش فيما بيننا....
كنت اعي الاحاديث التي كانت تدور بينهم.. بين اخي خالد واخي سمير سوية وهي تامل في ان يمضي الوقت سريعا ليتخلص كل واحد منهم من مغبة العيش ها هنا بهذا البيت مع هذا الكائن الغريب الذي ندعوه والدنا وكانت الاحلام تتناسل بينهم وكل وطريقه فيها اخي سمير ما كان ليرى سبيلا للعودة او للعيش داخل هذا المجتمع وهذا الوطن لو تسنى له ان يفارقه واخي خالد يعده انه سييسر له ذلك دونما شك لكنه لا يضمن له ان يستطيع تحمل العيش في الغربة كما يتصور هو الذي لم تنزل قدمه خارج المنزل لان سمير هو الوحيد الذي بقي بالبيت اطول فترة متتالية دونما باقي اخوتي الكبار...
كنت ادرك هول ما يتحدثون فيه وانا ارى ذلك البون الشاسع بيني وبينهم... بين احلامهم وما قد تكونه احلامي واخاف ان افيق ذات يوم على واقع انهم ذهبوا كي لا يعودوا او كي لا يعدوا الا كزوار وضيوف لايام ثم يعاودوا الرحيل... كان اشبه بانهيار تتعرض له "الاسرة" كما كنت استوعبها.. كما كان يجسدها تجمعنا ولمتنا ونظراتنا الى بعضنا البعض في تلك اللحظات العصية التي كنا جميعا نمر بها امام تجبر وفرعنة السيد والدنا وقهر وذل ومهانة والدتنا....
كنت اريد ان اقوى بسرعة اكثر من اي رغبة في ان مجرد ان اكبر...اريد ان استقل بدوري عن ارتباط عاطفي يشدني ويضعفني وكان يكفيني ما كان يفعل بي تعلقي بوالدتي وبدموعها وقلة حيلتها..لقد كان يهدني من الداخل وينسفني باستمرار لدرجة ارى من المحال ان تكون لي قومة من بعدها ولا ريش فوق جناحي لاطير ذات يوم واندفع خارجا من عشها....
تمنيت من خالص قلبي وفكري ان اتقوى وان اسند نفسي بنفسي قبل ان اصبح وحيدا بلا اخوة ولا اخت الا من والدي ووالدتي...الا من والدتي واستفراد الوالد بي وبها وكم كان صعب علي ان اتغذى بالافكار وحدها وان اضمن بها وحدها ان اتقوى في عالم مثل عالم مجتمعنا الغارق في التخلف والرجعية والمحكوم بالقهر والدين...
بقيت لي غرفة اخوتي بالسطح وبقيت لي غرفة اخي سمير بالسفلي البيت بعدما استعدناه وما بقي الوالد يقبل بكراءه لاحد من الناس وبقيت لي اشياء كل واحد منهم امانة بعضها وعطايا البعض الاخر منها كما اشياء اخرى محبوسة وموقوفة بذاكرتي عن كل واحد منهم... واشياء اخرى ناقصة كامال واحلام وتخيلات ما قدر لها ان ترى النور يوما... وبقي ذات الحنين الى كل واحد منهم... حنين لا يرتوى حتى بعودة اي واحد منهم ذات يوم قبل ان يعاود الرحيل لحيث غذى مستقره الشبه نهائي او النهائي للحياة داخل اسرتنا....
كرهت ان اكون انا صغيرهم وكرهت ان اكون اصغر من يدرس في الفصل واصغر من يجرا على فعل هذا او ذاك الفعل او الشيء او يتحصل على هذا اللقب او الجائزة...كرهت ان يكون علي ان اعقل دائما على وجودهم بيننا لانني انا من لبث هاهنا ولا غادر قبل اي احد فيهم....
كنت اتعب من تقدير معنى اسرة..اخوة...اخ اكبر واخ اوسط واخ يكبرني واخت تصغرني واخت اكبر غير شفيقة ووالد ووالدة...وعائلة ما عادت كما كانت من يوم ان رحلت جدتنا "رحمة السلطاني" في اكتوبر 1981 وخاصة بعد ان بيع جنان العائلة وفوت منزل الجدة لعماي وعمتي فاطنة ومينة وما عاد المنزل منزلنا بصيغة الجمع وانما منزل نشعر فيه بذاك القدر من الاغتراب ووجودنا فيه وجود ظيوف وزوار ليس الا.... سحقا على الاكاذيب كيف بيعت لنا... سحقا على العواطف كيف قيد لها بعد ان كبرت وجاشت ان تعاود وتصغر وتضعف وتتحول الى مكايسات ومواضعات مناسباتية... لم اكن اعرف تماما ان كل هذا سيتحول عبر الايام ولو كنت اعرفه تمام المعرفة لما امنت به ولا سمحت للقلب ان يغص بكل حب هؤلاء وهم حالما سكبرون ويمضي بهم العمر سيفارقون وسيهون عليهم البعد وسيعتصم كل واحد منهم بمكانه وببيته وبعالمه ولن يعود لايام صيف ان تجمعنا ولا ليوم جمعة ببيت الجدة لمة لكل افراد عائلتنا وحتى زيارات الاهل والاقارب تتباعد وتنقص حميميتها... فراغ هائل يعتصر قلبي وخراب كبير يمس اركانا من ذاكرتي التي ما كانت تعقل الاحداث وحدها وانما لجانبها كل الامال وكل الاحلام وكل وعود صادقة او غير صادقة كنا نقطعها على بعضنا البعض...
كل الذي نذبت نفسي له كان عالم الصمت وكل حكمة خرجت بها من ما عبرته طولا وعرضا في حياتي القصيرة ذات الخمسة عشرة سنة كانت الصمت ان اتعلم الصمت وان اقوى فعليا على ان اعيش لوحدي...خالصا لوحدي...
علمني الكلام ولغة الكلام واهداني حكمته القاسية حكمها والمريرة عيشتها حين لخصها لي في ان اتعلم الصمت وان ارتضي العيش لوحدي وان اكتفي بنفسي ووحدتي ان كنت اريد حياة العمق والمعنى والثراء...كم كان الحكيم اخي فؤاد اكبر من كل زمانه وكم خبر وخبر ولا يزال بعد يحسب نفسه في اول الطريق...
وكم يؤسني انني ضيعت كل ما حاول ان يعلمني اياه اخي خالد بعد ان عدت وتعلمته من مصادره الحقة لاعاود فاقدف به عرض الحائط واقول عنه انه لا يعنني ولا يهمني ولا حاجة لي به ولكم دينكم ولي ديني...ما ارتضيت في يوم اسلوبه ولا صنعته في الحياة ولا قيمه التي لا تشبه اية قيم ولا نظرته للحياة وكل ما ابقيت لي منها لقبي الذي اختاره لي في يوم السيد عميد ادارة مراقبة التراب الوطني بالعراىش فكان "الدرويش" ابقيت على الدرويش الذي لا يريد من كل حياة يمجدها ويدعوا اليها اخي خالد وشاكلته من الناس الا ان يعيش "درويشا" لا هم لي بسياستكم ولا بقانونكم ولا بعلاقاتكم ولا بسوقكم ولا بمراتبكم واوساطكم والقابكم.... اخي الذي اعقله واعرفه جيدا كان دائما هكذا برغماتيا وانانيا وبقدر من الجشع والطمع ولا يحب في الاول والاخير الا نفسه ولا تهمه في الاول او الاخير الا مصلحته ولا هما له بان تقف الدنيا او تقعد ما دام هو في احسن حال ومن لا يعتبره ويقدره يمحيه من كامل وجوده واعتباره وهو على ذلك طيب المعشر ومكايس اجتماعيا ومتواضع مع اعراف وتقاليد المجتمع والطبقة التي يضع نفسه فيها دون ان يضع في يوم حذره وانعدام ثقته تقريبا في كل الناس... انه النسخة المعدلة والمنقحة من سيدنا الوالد عميد عائلته التي سكن معظم افرادها الان المقابر بينما هو الان عميد العائلة الكبيرة الممتدة والذي بما لا اعرف كيف له ان ينجح يحضر ابنه بهاء الدين لعمادة كل العائلة وهو ما اراه محال ان يتحقق لا لان العائلة امتدت وكبرت وتشعبت بل لانه جنس لا ولاء له لاية قيم بما فيها العائلة لذلك لن ينجح ولو تحوز على كل لقب كبير وكل عناصر الثروة...
اذكر اننا كنا نستجم بشاطى مولاي بوسلهام عندما اخدنا الحديث ليتكلم لي عن ملاحظة سجلتها عليه صديقة له اجنبية وهي انه مثالي مما قد لا يسمح له بالانسجام مع الواقع الاجتماعي المادي الذي نعيشه في حاضرنا الان... لقد خبرني اخي سمير انه لا يرى نفسه كذلك لانه يمتلك قيما وحريص على ان يظل وفيا لها... وان تنظيم الاعتبارات الروحية والقيمية مع المتطلبات المادية قادر على ان يرفع من مستوى عيشنا وليس العكس.. وقال لي انه بالفعل تخلص من تلك المثالية الزائدة التي تشعرنا بالاغتراب والابتعاد كثيرا عن الواقع لكن دون ان يكفر بقيمه.... ولعل هذا ما اسجله بالكثير من الاسى على انحياز ذاك اكثر واكثر للحياة المادية ولجوانبها الشكلية اكثر فاكثر من اي اعتناء بالقيم الروحية وبالعواطف الكبيرة السامية....
حدث واعلنتها ان اخي الاكبر سجل تراجعا كبيرا في اختياراته السابقة وانه التفت مجددا لما كان متغافلا او بعمد قاصيا اياه من اعتبارته بمجرد ما تجاوز مطباثه المادية وحسن من وضعه المادي الاجتماعي ورفع من مستواه الاقتصادي المعيشي وانه بالفعل عاد لقيم المشاركة الوجدانية والعاطفية والاحساس بالاخرين والتفت لما سقط سهوا منه او اسقطه في رحلة شاقة ومتعبة ليرتقي بمستواه...وانه لا من عيب يسجل عليه في خطواته هذه واستعاداته تلك لما لم يكن ملتفتا اليه ولا مقبلا على ايفاءه حقه بالقدر ما قد تسجل لحسابه الخاص كخطوات ايجابية تصحيحية وكان لازم اتخادها لتجسد رقي وعيه كذلك لجانب رقي وضعه ومكانته...اقولها وقلتها لقد تغير وتغير بالفعل وللامام وللاحسن حال اخي الاكبر الانساني والوجداني ولم يعد ذلك الذي لا يفكر الا في نفسه ونفسه فقط وقبل اي شيء او شخص اخر مهما كان قريبا منه.....
في علاقتي مع اخوتي... مع كل واحد منهم على حدى.. وفي علاقتنا مع بعضنا لم نكن مثاليون ولا متكلفون بقدر ما كنا نملك تلك القدرة الرائعة على ممارسة النقد والنقد الذاتي وعلى نحو ساخر وكاريكاتوري ولا باس من رفع نبرته بيننا مع مراعات قدرة كل واحد على حدى وخصوصيته ودرجة حساسيته من النقد في موضوعات بذاتها... لم نكن نتحرج من خلق جو اشبه بالدعابة ونحن جادين في توجيه انتباه اي واحد منا لمكامن ضعفه ونقصه وعيوبه الفادحة وانحيازته الخاطئة... كنا نعتقد بصدق اننا بنوايا طيبة وحسنة نتحرك ونندفع في اثارة مثل تلك الاجواء لنمرر فيها رسائل حقيقة ولنلفت الانتباه الواجب اخده بهدف القلق اولا به والتفكير ثاليا فيه نحو العمل على تصحيح السلوك او موقع النظر للموضوعات خصوصا فيما يتعلق بالوضع التفاعلي مع الاخرين ومع المحيطين بنا.... كنا ننكث ونتفكه ونمارس ذلك النقد اللادع كي لا نتهم بالتقصير في الاهتمام ببعضنا البعض ولا في تجاهل خير كل واحد منا وخيرنا اجمعين.. ودون ان ندع لشك في صدق نوايانا او عواطفنا تجاه بعضنا.....
لم يكن ممكن ان نتقدم ونحن نبني بعضنا البعض على الغش والمجاملة ومجرد المحابات الزائفة... كان يلزمنا ان نتخير فقط الاشكال والاوقات المناسبة لنقول الاشياء كما ينبغي ان تقال ولان نسمي الاشياء باسمائها...
اعرفه كان قريبا جدا لوالدنا وكان مدينا له بالكثير بل لعل حتى شخصيته ما كان ليصنعها ويجدها بما هي عليه وتمتاز او تنحاز اليه لو لم يكن بكل ذلك القرب من السيد والدنا... لعل حتى دراسته وولعله بالقانون وميله للسلوك السلطوي واعتزازه بقدراته على صياغة الاحكام الاجتماعية والتاويل العلمي للاحداث والوقائع الاجتماعية المختلفة يعود لما خلعه عليه الوالد من سلطة كانت في الحقيقة خاصة بالوالد ويمتاز بها وضعه الاعتباري والاجتماعي كمن يمتلك ما ندعوه بالسلطة الابوية بالاضافة لسلطته الذكورية في مجتمع ذكوري بامتياز... وانا لم اناصبه اي عداء وانما خاصمت فيه هذا النزوع وذلك القدر من التسطيح للاوضاع ومثل تلك القراءات الفوقية للاحوال العامة والخاصة بعيدا عن تناول عميق ونفسي واناسي لها.... خاصمت فيه محاولاته في كل ما من مرة وقد اقترب مني ودنى اكثر مني ان يقزم من افكاري وتوجهاتي واختياراتي ومحاولته الاخرى لتازيمي وسد الخناق علي بنظرته الواقعية البرغماتية للحياة وللوجود الاجتماعي ولاشكال تنظيمه.... ما كان قادرا على تصور ان الافكار الكبيرة تصنع الهامات الكبيرة وتغير الواقع ووقائعه.. كان فقط يحاول التبخيس من اي شيء لا يكتسب الشكل المادي وقوته ووقعه... كان لا يرى اكثر من الحقائق الاجتماعية المتداولة والشعبية والقاصرة على فهم الواقع كما ينبغي فهمه واعلاء التحدي في مواجهة ميكنزماته والياته المبسطة والغارقة في التجسيم والتسطيح..... وانا كنت ارفض ان يحجم من ذاتيتي ومن كامل ما يصنع رؤيتي للوجود وللحياة وان يجعلها مجرد معادلة كم تملك وكم تساوي وهل انت معتبر اجتماعي كما ينبغي....؟!!...
الاختلاف والقبول بالمختلف عنه وبحقه في الوجود والسعي لاثباث ذاته ووجاهة اختياراته هو ما لم يكن يقبل به الا شكليا والا من باب التظاهر بانه حداثي ومنفتح الذهن والثقافة... كلنا كنا نعرف انه محق في توجهاته وانه يعرف بالضبط ما الذي يريده وانه جاد في الوصول اليه لكن دون ان يعني ذلك اننا قد نكون متفقين معه كليا فيما يسعى او يدعوا الى السعي اليه.... الى ها هنا وكنا نحسم الاختلاف بيننا وكلنا لاننا كلنا لم نكن مطابقين لبعضنا البعض ولا نسخا مكررة لبعضنا البعض ولا دخل لكوننا نعيش نفس الواقع ونفس الاوضاع ستكون لنا نفس المواقف ونفس الرؤى ووجهات النظر والتصرف منه....
بعد كل هذا العمر الذي راكمه كل واحد منا في سجله وتاريخه نعرف اننا للان لا نشبه بعضنا البعض ولا كنت لاكون من قبل الان او بعده اشبهه بمثل ما كانوا يحسبونه مني... كنت ولا زلت معجبا بالكثير من جوانب شخصيته لكن دون ان اسعى لتقليده او لبسه بالمقلوب.... كنت انا انا بمثل ما كان هو هو ولا حاجة لي لاوازن نفسي به او لاقبل ان احاكم بمنطقه وبمنطق الذي يسود بمجتمعنا..