مهما كانت زيارتنا تطول كان لابد ان اصحو يوما على ساعة الافتراق والرجوع الى الارض ،حيث الواقع الذي اصر والدي ان يحشره في رؤسنا بكل الاساليب ..حيث كل شيء بقدر وحساب ..كنا نعرف انه عانى الكثير وبقيت في نفسه ذات الغصة بأنه لم يكن منصوفا في دنياه وانه في مجمل معاناته الأولى كان غير قادر البثة على الاقتناع بأنه يستحق كل حرمان داقه وعاش عليه ..كان فقط غير قادر على الاحتجاج او الرفض لكنه مدرك تماما بأنه لايمت بصلة للفقر الذي يجترعه ضدا على امكانات والده /جدنا ..وكان يحز في قلبه اصرار والدته بالضبط على ان يعيشوا الضنك والحاجة ..الحاجة للطعام الجيد والوفير . الحاجة للباس..الحاجة لبيت يسعهم كلهم وبفرش مناسب .. الحاجة للاعتبار الاجتماعي الذي يناسب وضع ابيهم المادي ووضعه كملاك للارض والعقارات... لكنه معنا لم يفعل اكثر من محاولة اقناعنا بأنه لا يملك ذات منطق والديه وانه لا يقيم اي توازي بين التربية التي تلقاها هو وبين تربيتنا نحن وانه ببساطة يحاول ان يقيم التوازن المفروض بين وضعه الاجتماعي الوظيفي وبين متطلباته والتزاماته تجاه اسرته ...وانه يريدنا أن نكون واقعيين لا غير ..
كنت اعي الواقع الذي ينتظرني بعد العودة من جنة "طنجة " هي ايام فقط على عودتنا للمدارس ولدوامها ولطقوس انتظامنا حول مائدة الطعام وامام التلفاز وكنت اعرف انني لن افارقهم بخيالي وساذاكر كل لحظة عشتها الى جانبهم وحدي ..في خلوتي وتحت غطاء فراش نومي ولن ابخل على بالدموع ..سادعها اخر تطهر لي قبل أن اغفو في نومي ...
كنت الومهن بيني وبين نفسي لا لشيء الا لانهن كن اكثر رهافة في التعامل معي ..في تقبلي ..في الانصات الي ..في الاستجابة لاحتياجاتي النفسية والعاطفية ...كنت اقارن حالي وحال عديدين من من تعرفت عليهم في محيط الحي والمدرسة والمجتمع ..من من طورت حال مشاعري تجاههم من الشفقة الى التعاطف معم كما افهمني اخي الاكبر مني..من يفتقرون الى كل شيء تقريبا والى حضن العائلة أساسا ..كنت اجدهم منسجمين وغير منسجمين في ذات الان ..طيبون ومبادلون العطاء لكنهم مميزون باصرارهم على أن يبدلوا وينجزوا ويحققوا اشياءا لهم ولذويهم ولربما هذا ما كان يجعلهم مبتعدين عن الاخرين ..يقطعون الطرق لوحدهم ونادرا ما يشاركوننا جوقتنا في مناسبات الافراح والاعياد وحتى النزول للشاطئ البحر لا ياخد منهم في مجمله ساعة زمان ويعودون بحالهم ...كانوا اقوياء وصمتون وحنونون ..ولعلي كنت اريد ان اكون مثلهم..!! كان يتعبني الحنين للجنة اكثر مما تتعبني اللوائح المفروض اتباعها بالبيت ..كان يعدمني اتزاني الشوق لكل احضانهم الدافئة ..كان يرعبني الخوف على افتقاد احد منهم ..كنت مثل خالتي "زهرة " حملت في ابنها الاصغر نسخة أخرى لابنها الاوسط الذي افتقدته والذي ما صدقت شخصيا انه فعلا كان موجودا بينهم ..لا اعرف لكنني تعلمت ان لا اصدق الا فيما أراه والمس وجوده المادي والفعلي الباقي قد يكون وقد يكون مجرد تعبير عن اشياء قد استوعب مضامينها الان او بعد قليل او في يوم من الايام .. خالتي كان خوفها مضاعفا كما محبتها لابنها "عبد الحميد "كانت لابعد حد متطرفة في حبه والاهتمام به وهي مع ذلك تلبس لباس الصرامة في كل تعاملاتها وتحرص على أن لا تدلله او تفسد طباعه ..خالتي كانت لها مواقف بدت فيها غير قادرة على المكابرة والتحمل وتصنع تبلد المشاعر لكن أول حالة اغماء وانهيار في الشارع العام كانت من خشيتها على ابنها "عبد الحميد" الذي توارى عن انظارها وهو يتعقب لص محفظة سرقها من والدتي ...صرخت بلوعة وانهارت وحتى لما فتحت عينها ما انحبست دموعها الممطرة بصمت وذهول حتى عاد اليها لتستعيد انتبهاها ورباطة جئشها بل ولتقود هي عملية الابلاغ وافادة الشرطة بالواقعة وتدفع والدتي لاستخراج شهادة ضياع بطاقتها الوطنية التي كانت بالمحفظة المسروقة .. وانا كنت خائفا على أن افتقدهم .. افتقدهن .. كما افتقادي المزمن لاختى الكبرى الغير الشقيقة ولربما خوفي من ان افتقد فيهم والدتي التي لولها لما كن لهن مثل وجودهم ..وجودهن في حياتي وفي مشاعري وذاكرتي ...
من جملة ما لم اقدر على استعابه تماما اصرار اختي الغير الشقيقة على أن تنادي والدتي، والدتها ب"خالتي"..ومن جملة من احببتهن لذواتهن وبالتخصيص عمتي"فطوم"فقط لأن اختي "مليكة "كانت تحبها وكان منزل العمة ملاذ لها لذلك كان لزوما علي ان أحبها.. وان أحبها بالعقل ..ان أحبها حبا مضاعفا يشبه لحد بعيد حبي لعائلة خالتي "زهرة "وحبي الخاص جدا لخالتي "زهرة " ...
التمارين التي ترجيت اخي "سمير "ان يدخلني فيها كانت تؤتي اكلها معي ..تعلمت ان أهجر العالم للصمت وان اتعبد فيه ..ان اطرح كل مايطفو في سطح ذهني وانا لا امسك الا بافكار وخواطر العمق وان لا انشغل تماما الا بالافكار التي تتوارد على من اخر صور استقر عليها تاملي...كان بادئ ذي بدا يسخر مني ويقول لي:" انك لا تقوى على مسايرة نشاطتي الرياضية البدنية ..مقتول .. "بشرى "صعيبة عليك ..وخا اسيدي انا غذي نعلمك التامل الذاتي راه هو ل"يوغا "غير مبعد على الفلسفة الدينية .." ..كنت اعرف انني على الاقل مرحليا لن أكون في حاجة لتعلم اية رياضة قتالية مادام اخوتي بجانبي وابناء عماتي اجدهم بجوارنا في البحر ..بالقرب من المدرسة ..بشوارع المدينة هم وعماي وباقي افراد عائلتنا وهم قادرون على أن يدافعوا عني ويحمونني ...كنت على الاصح في حاجة لان اتقوى من الداخل كما لاحظ علي اخي الاكبر مني "فؤاد"..
اخي الكبير "خالد"دفعني بقوة للقراءة والمناقشة قال لي بأنها خلاصي من الوحدة وكسب للقوة ..اخي "فؤاد"نبهني :"مشي ليقلك عليها "خالد"تتبعوا فيها ..هذاك راه وخا خوك راه فشي شكل راه تاهو كبحال بوا 'والدنا' وعمامي راه مكيعحبوا غير راسو ...قرى الكتب وناقشها مع راسك اما مع لخرين ناقش غير الافكار ديال الكتاب مشي الافكار لكونتها انت مع الكتاب ..هذك احتفظ بها لنفسك ..طور بها راسك كبحال لكيدير "خالد "مخصوا حتى واحد ميكون كبحالوا .."
كنت اتالم عاطفيا لما ادفع لاتخد بعض المواقف من الاشخاص القرببين مني لكنه ما دمت حريصا على أن اتلقى المعرفة من الذين احبهم فإنني امسك على اعصابي واعقد العزم على أن أكون في مستوى التعلم منهم او لانني كنت اعرف انني لامحالة سأراجع اخي "سمير "في ذلك ..هو على اكثر من مستوى يشبه ابنة خالتي "فاطمة"يستقبلني بالضحكة ثم الابتسام وثم الترحيب واطيب الملامسات والعناقات والتقريب منه ومستعد بلا حدود ليتعاطى معي في اي موضوع ولينصت الي والأهم ،ليوجهني بعد ان يقدم لي اكثر من اختيار ..وهو يضج بالحياة والفاعلية والقدرة على العمل والابتكار ويتدبر دائما احوله المادية وموضوعاتها ..قال لي "نحن استفدنا من تجارب عمينا وكل افراد العائلة ومن الذين صاحبنهم ونحن كل واحد منا يحاول ان ينقل لك بعض خبراته الخاصة ويقوي فيك جزءا ..دبا "فؤاد"مشي بغى يخسرك مع "خالد"ولا انا غذي نخسرك معهم بجوج غير بش انت تولي من تتنبه لشي مساءلة تولي تقرها في راسك وتقرنها مع افكار وحدة خرى وهذيك لغذي تستقر عليها كما بغت تكون هي لتدير بها ...."
عندما كان يستقر تاملي على خالتي "زهرة" لا اذهب بعيدا في تفكيري إذ سرعان ما استشف سر تعلقها بي وتعلقي بها الخاص جدا ..خالتي "زهرة"لم تكن مجرد اخت لوالدتي ومجرد اخت صغرى لها.. ومجرد اختين افتقدا اختيهما الكبرى ووالديهما وهما بعد طفلتين لجوارهما وليس لجانبهما اخ اكبر لكنه غير قادر على معالجة اي امر من الافتقاد الذي لم يصحو منه ..افتقاد تام لاي موضوعات ضمان او امان اجتماعي في زمن متحول انهكته الحرب العالمية الثانية وتابعاتها ..في زمن الجوع الفضيع والعام جدا.."زهرة"خالتي لم تصحوا يوما من مخاوفها الحقيقية رغم كل تبدل احولها المادية والاجتماعية "زهرة"خالتي بقيت في داخلها نفس الطفلة المرعوبة التي فاقت يوما ولم تجد من كل من كان يدللها ويهتم بها غير اختها اما حتى اخوها "محمد"فلقد كان تائها ..مصدوما وهما من تناوبا على رعايته حتى في ابسط متطلباته وشؤونه اليومية "زهرة "لم تعرف يوما ان تنام الا كما ينام الذئب حتى في عز شخيرها أدنيها مفتوحة ..تتحسس اي صوت واي ذبيب ..كانت تحكي وتقول لي "...كان اي صوت كنسمع وخى حتى المغرب ما اذن كنحرك اختي "رحيموا"وكنقولها نوضي هاهما جاو لينا يديونا..."..خالتي "زهرة"رائحتها لا تشبه رائحة والدتي ولا حضنها يشبه حضن والدتي ..حضن والدتي كان اول ما يقابلني يغمرني بالدفئ ..خالتي حضنها يتقلب من مثل اي حضن امرأة عادية تعرفنا الى حضن يشتعل ..الى حضن غير سلبي ..حضن بعد ان تقربني منه تعانقني لتتحسس كامل ظهري ..كامل جسدي وتغمرني بالقبلات قبل أن تجلسني الى حجرها وهي لا تكف عن مناداتي "اجي عنذي اخالتي ديالي ..توحشتك كثر مكتتوحشني ..." ..خالتي "زهرة"لربما في غياب ابنها "عبد الحميد"الوحيد الذي كانت ترمقه طوال الوقت وتتبعه ولا تغفل عن النظر اليه اكون انا ..اختي "بشرى"كانت تلاحظ منها ذلك وتومأ لي بعينها ؛اي تتبع ..وانا افتح عيني جيدا لاخاطب خالتي وهي تفهم مني ولا تتوانى على أن تمسك بأختي الصغرى "بشرى"وتقربها منها ..كنت افهم كل شيء منها وتفهمني من مجرد النظر لعيون بعضنا البعض بل احيانا كانت تجهر بصوتها الداخلي وتقول لي "سمعتك ..بلاتي نكمل هذ شي لي فيدي ونجي لعندك اخالتي ديالي.."تقولها لي على انني لم انبس بآية كلمة من شفتي ....عزيزي "سي محمد"كان لا يكف عن الابتسام ببشاشة في وجهي وعندما كانت تطلب مني والدتي ان اكف قليلا عن خالتي "وباركة راك عيقتي على خالتك راك كبرتي .." كانت خالتي تضحك جهرا وتزيد من احتضاني وتشبعني بالقبلات.. وتنظر لبناتها ولابنها قرة عينها وبتخابث تقول لهم "موتوا المغياريين .."ويضحكوا وكل يحاول ان يساير الجو وحده عزيزي كان يقصر من ضحكته ويطلب مني الاقتراب منه ويومأ لاختي ان تقترب هي كذلك منه ليحنوا علينا ويحتضنا لبرهة ثم يعدل من طريقة جلسته وياخد كفينا لكفه ليسرب الينا احلى شعور بالسلم والأمان والمحبة كانت اختي لا تتمالك نفسها لتهب بتقبليه وهو يتمتم بالرضى عليها اما انا فانغرس به واتمايل عليه بظهري دون ان ازيح نظري عن خالتي التي كانت تسحب نظرتي وتقدف بها بعيدا لعينيي تراقب الوضع بمزيح من الحب والحنان والغبطة التامة ..لعيون "آسية "احلى وارق عيون عرفتهما وساعرفهما في كل ما سيأتي من حياتي وعمري ..
(يتبع ..)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق